ربيع الأعمال العربي

الشريك المؤسس لشركة أرامكس، فادي غندور، يدعو إلى نموذج جديد للأعمال تحتل فيه العائدات الاجتماعية مكانةً لا تقل قيمةً عن العائدات المالية.

في ديسمبر 2010، في أحد شوارع مدينة سيدي بوزيد التونسية الصغيرة، أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه، ما أثار موجاتٍ متلاحقة من الغضب في مختلف أنحاء العالم العربي. لقد ساهم إشعال بائع الفواكه الجوال النار في جسده، كردة فعل يائسة على مصادرة عربته غير المرخصة، في قيام ثورةٍ اشتعل فتيلها في تونس، لتطال مصر ثم ليبيا وما زالت تواصل اشتعالها حتى اليوم. بالفعل، لاقى عمل البوعزيزي هذا صدىً لدى الملايين من الشباب العرب المضطهدين وهم يصارعون الفقر والبطالة. واليوم، ستساهم هذه العوامل نفسها، برأي فادي غندور، في تحفيز موجةٍ جديدة من ريادة الأعمال والنشاط الاجتماعي تربك مسار ريادة الأعمال التقليدية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

وعن ذلك، يقول: "في صلب هذه الانتفاضة الشبابية العربية، تكمن دوافع اقتصادية. فعندما لا يشعر المرء بنوعٍ ولو بسيط من المشاركة الاقتصادية، وعندما لا يشارك في تأمين استقرار مجتمعه، سيثور. في هذا الإطار، كان البوعزيزي أول رائد مشاريع ثائر".

يحتل غندور موقعاً متقدماً في الثورة التي يدعو إليها، إذ يُعرف عنه في أوساط الأعمال بأنه شريك مؤسس لشركة أرامكس التي أنشأها من الصفر، محولاً إياها إلى شركة لوجستيات عملاقة بقيمة 1.3 مليار دولار، وأول شركة في العالم العربي تُدرج في بورصة ناسداك في نيويورك. ومع أن أهدافه أصغر حجماً اليوم إلا أنها لا تقل أهمية. فعلى امتداد العقد الماضي، أصبح داعماً أساسياً للشباب العرب من رواد المشاريع، مزوداً إياهم برأس المال اللازم والخبرة المطلوبة لتأسيس مشاريع ناشئة. ولا يقتصر التمويل على مبالغ بسيطة: فقد جازف بملايين الدولارات، سواء من خلال صندوق الأربعين مليون دولار، "مينا فينتشر انفستمنت"، الذي أطلقه مع عارف النقفي، مؤسس "مجموعة أبراج"، أو بفضل إمكانياته الخاصة في مشهد تأسيس المشاريع الناشئة. وبقي غندور يحيل كل ما يلمسه إلى ذهب: فكان الداعم الأول لموقع "مكتوب"، وهي بوابة إلكترونية باللغة العربية بيعت إلى "ياهو" في العام 2009 مقابل 164 مليون دولار، حسب بعض المصادر.

"لو أن كل كلمة أُطلقت حول تمويل الشركات الناشئة في المنطقة قد تُرجمت إلى تمويل حقيقي، لكان في جعبتنا اليوم أكبر صناديق التمويل في العالم".

تنحى غندور عن منصب الرئيس التنفيذي لشركة أرامكس في العام 2012 ــ مع احتفاظه بمنصب نائب رئيس مجلس الإدارة فيها ــ كي يركز على نشاطاته الخيرية. وهذا غيضٌ من فيض ألقابه الحالية: رئيس مجلس إدارة "ومضة"، وهي منصة إلكترونية مخصصة لكل ما يتعلق بإنشاء المشاريع الجديدة، ومؤسس "رواد التنمية" التي تشجع الشباب على العمل الناشط في المجتمعات المحلية الفقيرة من خلال تأمين المنح الدراسية وبرامج أخرى. وهو أيضاً عضوٌ في مجلس إدارة "إنديفر غلوبال"، وهي منظمة غير ربحية تجمع أصحاب المشاريع بخبراء مخضرمين في مجال الأعمال، ومنظمة "إنجاز العرب" التي تهدف إلى تزويد الطلاب بمهارات في ريادة الأعمال والقيادة. فضلاً عن ذلك، امتد تأثيره لدعم مؤسسة "أويسس 500" الأردنية لتسريع مبادرات ريادة الأعمال، والجامعة الأميركية في بيروت، وغير ذلك. ويقول غندور، بتواضع، أن هذا الأمر يساعده في شغل وقته.

يدلي حبيب حداد، رئيس مجلس إدارة "ومضة"، برأيه حول غندور فيقول: "سيُسَجّل عمله في تاريخ منطقتنا، لا لأنه يمثل وجه ريادة الأعمال فحسب، بل لمبادرته أيضاً إلى الأفعال لا الأقوال، من خلال استثمار أمواله الخاصة، وإبقاء بابه مفتوحاً دوماً للشباب. إن تأثيره بالغٌ فعلاً".

image title
حوَّل غندور أرامكس من شركة ناشئة للخدمات اللوجستية في الأردن إلى شركة عملاقة تقدر قيمتها بـ 1.3 مليار دولار، وأول شركة عربية تُدرج في بورصة ناسداك.

%67

ثلثا الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعتقدون أن أبناء جيلهم أكثر ميلاً إلى تأسيس أعمالهم الخاصة مقارنة بالأجيال السابقة.


تشكل الشركات الناشئة جزءاً من جدل أوسع يتناول الروابط بين شركات الأعمال الخاصة والمجتمع، وقد بدأ يكتسب أهميةً متزايدة منذ انطلاق الربيع العربي. فنتيجة للاضطرابات الأخيرة، بات التركيز واضحاً في المنطقة على مشكلة بطالة الشباب وانعدام المساواة الاقتصادية، وبات من الواضح أن الحكومات لا تملك الأموال اللازمة ولا القدرة على معالجة هذه المشاكل بمفردها. وتم الترويج لريادة الأعمال بصفتها ترياقاً لهذا المزيج من المشاكل، لكنها ما زالت بحاجة إلى دعم من قطاع خاص ناشط، وهذا ما لا يتفق عليه الجميع.

ويقول غندور: "لا تبذل الشركات مجهوداً كافياً لحد الآن، ففكرة أنها مسؤولة فقط عن تأمين نجاحها التجاري تُعتبر، برأيي، ضرباً من الجنون. إذا نظرنا إلى الدول حيث اندلعت الانتفاضات، سنلاحظ أن القطاع الخاص فيها كان متراجعاً. لذا، من مصلحة الشركات أن تقدم المزيد، سواء من رأسمالها الخاص أم معارفها أم قدراتها".

يقوم غندور بحملة لتعميم التأييد لفكرة إعادة ابتكار برامج عمل الشركات. فعوضاً عن نظام رأسمالي محدود الأفق ينصب فيه هدف الشركات على تحقيق الأرباح لا أكثر، يصف غندور نموذجاً تحتل فيه العائدات الاجتماعية مكانةً لا تقل أهميةً عن العائدات المالية. ينطوي هذا الأمر على إرباك سير العمل وفق نظام الأعمال القائم ليحل محله النموذج الناشئ الذي سيعتمد بالدرجة الأولى على إقناع الشركات بجدواه. لا شك أن تحقيق أهداف الربيع العربي المتمثلة في إيجاد فرص العمل، وتأمين الاستقرار وظروف معيشة أفضل سيتعطل إذا لم تنشأ أنظمة اقتصادية حيوية يقودها القطاع الخاص.

ويضيف قائلاً: "لا يتعلق الأمر بالمسؤولية الاجتماعية للشركات، بل بالشركة ككائن له وجوده المؤثر على المجتمع من حوله ... فرخاء الشركة وازدهارها مرتبطان برخاء المجتمع الذي تنشأ فيه، والعكس صحيح. إذا لم نأخذ هذا الرأي بالاعتبار، فإننا قد نضحي بنجاح طويل الأمد مقابل تحقيق بعض المكاسب السريعة".

ويواصل: "لعل المطالبة بالتغيير قد خفتت اليوم، لكن من يفترض أن المشكلة قد حُلَت فهو يتحمل عواقب الخطأ في التقدير. فما زالت الأسئلة ذاتها مطروحة: كيف يتم توزيع الثروة في المجتمع؟ وكيف نشجع شبابنا على خلق فرص العمل والاستفادة من ثروة المجتمع؟".

ولا يقوم نقد غندور على مجرد نظريات، بل إنه يطبق فعلياً ما يعظ به في حياته اليومية. فالعمل المؤسساتي الناشط اجتماعياً هو ضمن نسيج بيئة العمل المعتمدة لدى أرامكس. وللشركة سجلٌ عريق يشهد لنشاطاتها في مجال الإغاثة عند الكوارث، وتطبيق برامج التعليم والتوظيف، وتعزيز الرياضة وتنمية الشباب ــ هذا بالطبع إلى جانب مساعدة أصحاب المشاريع. كما أنها تتبع سياسة التعامل مع الشركات الناشئة، فإذا كان بمقدورها التعاقد مع موردين أو مزودي خدمات من الشركات الصغيرة أو المتوسطة الحجم على حساب شركة عملاقة، فلن تتردد في فعل ذلك.

ويقول غندور: "يسألني الناس عن الفرق ما بين شركة أرامكس والشركات المنافسة لها التي تُقدر أعمالها بمئات المليارات من الدولارات. فأجيب دوماً أن الأمر يتعلق بثقافة شركتنا، فبمقدور أيٍ كان أن يبيع الخدمات التي نقدمها". ويضيف: "للقطاع الخاص مهمة أساسية. فليس بمقدور الحكومات إجراء الإصلاحات بمفردها، وشبكة الأمان التي يؤمنها نظام الرعاية الاجتماعية لا يمكن أن تغطي جميع الاحتياجات. هل سيكلفنا الأمر؟ نعم. ولكنه استثمار سيؤتي ثماره في المستقبل".

يتعلق الأمر، إلى حدٍ كبير، بنشر فكرة الرأسمالية الواعية هذه بين الجيل الجديد. يعزو غندور، وهو مواطنٌ أردني، جذوره في العمل الناشط إلى نشأته على خلفية النزاع العربي الإسرائيلي، فقد كانت السياسة تحتل محور الحديث بشكل يومي، كما كان هناك، كما يذكر، "مفهومٌ واضح للعدالة الاجتماعية والواجبات، وحسٌ بضرورة تغيير شيء ما في هذه المنطقة".

سعى غندور إلى تطبيق هذا المفهوم من خلال مشروع "رواد" الذي يقدم منحاً دراسية إلى طلاب الجامعات الواعدين، تتراوح قيمتها عادةً بين 2,000 و3,000 دولار لكل طالب سنوياً. في المقابل، يُتوقع من هؤلاء الطلاب إيجاد عمل تطوعي في مجتمعاتهم المحلية، كطريقة للمساهمة بجهدهم وعملهم مقابل تأمين المال. وفي هذا الإطار، يقول غندور: "لسنا بجمعية خيرية. يجب أن يكسبوا المال. نؤمن لهم تعليماً مجانياً، لكن يجب أن يتعلموا أيضاً أن يعطوا بالمقابل".

ويؤكد غندور أن ضبط هذه العملية بالشكل الصحيح سيؤدي في النهاية إلى جعل هؤلاء الخريجين دعامة لثورة في عالم ريادة الأعمال، حيث تكون الأرباح والعائدات الاجتماعية مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً. فيقول: "هكذا تنمي مواطنين ناشطين، وليس بانتظار أن تقوم الحكومة بمعالجة المشاكل الاجتماعية. سيملك المواطنون حينذاك حساً بالملكية والمسؤولية تجاه مجتمعاتهم المحلية وتجاه جيرانهم".

"الأمر لا يتعلق بتغيير العالم، بل بتغيير الجزء الذي تعيشون فيه. هذا هو النشاط الاجتماعي وهو أسلوبٌ ناجح".

image title

لكن الطريق ما زالت طويلة. صحيحٌ أن الثورات ربما عززت أعداد أصحاب المشاريع العرب من الشباب، إلا أن الشركات الناشئة ما زالت تصارع لضمان استمراريتها. فتأمين التمويل يعتبر صراعاً مستمراً، لا سيما أن المستثمرين ما زالوا يفضلون الأصول الملموسة، مثل العقارات والصناعات على حساب المجازفة بالاستثمار في شركات ناشئة. فبعد صفقة بيع "مكتوب" التي احتلت عناوين الأخبار، لم يكن هناك سوى القليل من الصفقات المهمة، لكن لم تلق أي عملية أخرى ذات المستوى من الألق والاهتمام. ومن المؤكد أن المنافسة ستحتدم، فوفقاً لنتائج استبيان نُشر في أبريل وشمل 3,500 من الشباب في 16 دولة عربية، اعتقد ثلثا المشاركين أن أبناء جيلهم أكثر ميلاً إلى تأسيس أعمالهم الخاصة مقارنة بالأجيال السابقة.

وحتى اليوم، استثمرت "مينا فينتشر انفستمنت" أموالها في أكثر من 60 شركة. وتتراوح غالبية الاستثمارات "ما بين 200 ألف و300 ألف دولار، مع التأكيد على المشاركة كمستثمر بحصص الأقلية"، كما يفيد به غندور. لكن الحصول على مثل هذا التمويل يبقى نادراً. ويضيف غندور بأسف: "لو أن كل كلمة أُطلقت حول تمويل الشركات الناشئة في المنطقة قد تُرجمت إلى تمويل حقيقي، لكان في جعبتنا اليوم أكبر صناديق التمويل في العالم. لكن واقع الأمر هو أن رأس المال المخاطر، أو رأس مال الدورة الأولى، ما يزال يقتصر على عشرات الملايين من الدولارات. ونحن بحاجة إلى أكثر من ذلك بكثير".

وفي الاقتصادات العربية الغنية بالنفط، سعت بعض الحكومات إلى معالجة نقص التمويل من خلال إطلاق صناديق تمويل مدعومة من قبل الدولة، وهو أسلوبٌ يمكن أن تكون له ثغراته. وفي هذا الصدد، يقول غندور: "يقلقني أن يدخل التمويل الحكومي إلى هذه المعادلة، لأن آخر ما يجب منحه إلى أصحاب المشاريع الناشئة هو شبكة أمان ... سيأتي يومٌ لن تتمكن فيه الحكومات من توزيع المزيد من المعونات المادية. إحدى الصفات التي يجب أن يتمتع بها صاحب المشروع الريادي هو أن يكون قادراً على الوقوف على قدميه، وأن ينشئ ثروة بديلة خاصة بمعزل عن ثروات الدولة".

على أي حال، تلك هي المشاكل الكبرى بصورة عامة، لكن الصيغة التي يعتمدها غندور بسيطة جداً، ففي ما يتعلق بموضوع "إحداث التأثير"، وهو موضوع جدلي شائك يمكن أن يستنفد رجال الأعمال الذين تحولوا إلى الأعمال الخيرية، يتعامل غندور مع الأمر ببساطة تامة، فيقول: "أعتقد أن الأمر واضحٌ ومحسوم. أعتبر أنني أحدث تأثيراً عندما أعالج مصدر ألمٍ في المجتمع، مع التزام صريح مني بالمتابعة. هذا هو إحداث التأثير برأيي".

وبالنسبة للأشخاص الطامحين للعمل كناشطين اجتماعيين، يقدم غندور نصيحةً مباشرة أيضاً: "وسِّعوا من نطاق عملكم حتى يشمل المجتمع. لا يتعلق الأمر بتأمين ميزانية هائلة. كونوا مرشدين، واستقطبوا المتدربين. إذا كانت شركتكم كبيرة، اشتروا 10 أو 15 بالمئة من احتياجاتكم من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. هذا هو مجتمعكم، وأنتم على دراية بالتحديات التي ستواجهونها كأي شخص آخر".

ويختتم بالقول: "لا أريد أن أعقّد الأمور، فالأمر لا يتعلق بتغيير العالم، بل بتغيير الجزء الذي تعيشون فيه. هذا هو النشاط الاجتماعي وهو أسلوبٌ ناجح". – PA