'نرعى الصحة النفسية على الخطوط الأمامية للأزمات الإنسانية'

تطوع عصام داود، الطبيب النفسي المتخصص بالأطفال، في البداية كطبيب للعناية باللاجئين الهاربين من الحرب، لكنه سرعان ما أدرك الحاجة الماسة لعلاج الإصابات الخفية المتمثلة بالصدمات النفسية التي يعاني منها اللاجئون. فبدأ يقدم من خلال منظمته 'هيومانيتي كرو' خدمات الاستجابة الأولى في مجال الصحة النفسية، ليستبدل في نفوس اللاجئين اليأس بالأمل والضعف بالتمكين.

ترتبط رائحة البحر والرذاذ المالح لدى معظم الناس بجمال الطبيعة، لكن بالنسبة لغالبية اللاجئين الذين نجوا من مخاطر الرحلات الشاقة عبر البحر فهي تذكرهم بالإرهاق الجسدي، والخوف من الموت غرقاً، ومشهد الفوضى على الشاطئ وهم يلتقطون أنفاسهم، أو في القارب المكتظ بينما يتساقط الركاب في المياه من حولهم. هذه هي إحدى عوارض الصدمات النفسية التي تبقى خفية وكامنة في عقل الإنسان، لكن أي محرك مرتبط بالتجربة بعد أيام أو أسابيع أو شهور وحتى سنوات بعد الحادث الذي أوقع الصدمة قد يثيرها ويعيدها إلى الذاكرة من جديد. هذه الصدمات النفسية هي ما نحاول معالجته من خلال عملنا في منظمة "هيومانيتي كرو" (أو 'متطوعون لأجل الإنسانية'). 

نشأت فكرة هذه المنظمة في أواخر العام 2015 على شواطئ جزيرة ليسبوس اليونانية عندما سافرت مع زوجتي ماريا من موطني في حيفا إلى الجزيرة بهدف المساعدة في أزمة اللاجئين التي بدأت بالتفاقم هناك. كنا نعمل كمتطوعين في المستشفيات أو السواحل التي كانت تقصدها قوارب اللاجئين. 

كوني قد تأهلت كطبيب عام قبل أن أصبح طبيباً نفسياً، كنت أقدم الرعاية الطبية العاجلة على الشواطئ، بينما كانت ماريا الحاصلة على شهادة في المحاماة تنتقل بين المستشفيات المحلية ومخيمات اللاجئين لتقدم الدعم للمحتاجين في مختلف شؤونهم. وفي غضون أيام معدودة منذ وصولنا إلى ليسبوس بدأت أعداد اللاجئين بالزوارق بالتصاعد بشكل هائل – لتبلغ نحو 6,000 لاجئ في اليوم – وهو أمر لم يكن أحد جاهزاً للتعامل معه. خلال الشهر الأول من عملنا في ليسبوس، قمت بإجراءات الإنعاش لعشرات اللاجئين الذين كانوا على وشك الموت، وشهدت وفاة 54 شخصاً أخر. كانت هناك حالة شديدة من الفوضى تعمّ المشهد. 

أذكر أنه في يوم من الأيام سارع المتطوعون وزوارق الصيد وحرس السواحل اليوناني بإنقاذ ما يزيد عن 240 لاجئاً كان زورقهم قد انقلب بهم، وباتوا يتصارعون مع الأمواج للبقاء على قيد الحياة. ضمت المجموعة لاجئين من جميع الأعمار - من الأطفال الرضع وحتى البالغين. كان بينهم ولد صغير اسمه أحمد قد شارف على الموت عندما رمته الأمواج قرب الشاطئ، لكنني سارعت إلى إنقاذه بإجراءات الإنعاش القلبي الرئوي. لم أكن أعرف اسمه حينها، لكن فيما بعد تعرفت زوجتي على صورته في إحدى الصحف، فقد صادف أن رأته في المستشفى وهو في حالة شلل كتاتوني، حيث تم نقله هناك بعد أن أنقذته على الشاطئ. كان صامتاً لا يستجيب لأية محفزات على مدى أيام، وكانت زوجتي تتردد عليه وتحدثه بكلام مطمئن لعله ينتعش. وبعد ثلاثة أيام على حالته هذه، نطق أولى كلماته قائلاً لها "أريد العودة إلى بلدي". جعلتني هذه القصة أن أتنبه إلى مسألة مهمة كانت قد غابت عن ذهني، فقد أدركت تماماً لأول مرة مدى أهمية الحفاظ على الصحة النفسية ودعمها منذ المراحل الأولى لإغاثة ضحايا الأزمات الإنسانية. 

قمنا بإنشاء منظمة 'متطوعون لأجل الإنسانية' بعد زيارتنا الأولى لليسبوس كفريق مؤلف حينها من طبيبين مختصين بعلم النفس السريري. وأطلقنا هذا الاسم على المنظمة ليكون بمثابة دعوة للمتطوعين من كل أنحاء العالم للمشاركة سوياً في مهمة واحدة، وهي مساعدة اللاجئين والنازحين على الشعور بإنسانيتهم مرة أخرى. 

لغاية اليوم، أنجزنا أكثر من 250 مهمة، وقدمنا ما يزيد عن 30,000 ساعة في دعم الصحة العقلية للاجئين، وذلك بمساعدة أكثر من 220 متطوعاً مؤهلاً. نحن نضع أنفسنا في طليعة المسعفين على الخطوط الأمامية للأزمات الإنسانية لأننا مقتنعون بأن الرعاية النفسية يجب أن ترافق الإسعافات الأولية أو تكون مكملة لها. فنحن نعمل سوياً على تقديم الدعم للبشر وليس لآلات. 

يعتمد نهج عملنا في تقديم الرعاية النفسية على أربع خطوات تترافق مع كل مرحلة من مراحل رحلة اللاجئين. في البداية، نحن ندرك أن رحيل اللاجئين من بلدهم بحد ذاته يسبب إرهاقاً ليس جسدياً فحسب بل نفسياً أيضاً. لذا، فالمرحلة الأولى هي الاضطراب النفسي الحاد الناجم عن هرب اللاجئين من ديارهم. تعد المرحلة النفسية الثانية عابرة، وهي تتمثل في القلق وعدم اليقين مما ستكون عليه الحياة داخل المخيمات. تلي ذلك مرحلة الحيرة والتخبط التي تقترن باتخاذ القرار حول وجهة اللجوء، أما المرحلة الرابعة والأخيرة فتتمثل في عملية إعادة التوطين والتأقلم مع حياة جديدة في بلد غريب.

ينطوي عملنا خلال أول مرحلتين على منع الأزمة النفسية من أن تترسخ في نفوس اللاجئين وعقولهم. أما بالنسبة للأطفال الذين يصلون على متن القوارب ويخوضون تجارب تجمع بين الرعب والبكاء، فنقوم بسرد قصصهم في إطار مختلف لنؤكد لهم على أن الأبطال هم فقط من يمتلك الشجاعة لاجتياز البحار وتهدئة الأمواج بأيديهم. 

وخلال الدقائق الأولى من إتمام عملية الإنقاذ، يقوم فريقنا من المتطوعين بالتقاط صور فوتوغرافية للأطفال، ويطلبون منهم تواقيعهم للذكرى. ومتى ما استقر الأطفال في المخيم خلال فترة وجيزة، يقوم المتطوعون بحثّهم على تأليف أغاني حول شجاعتهم. تمنح هذه الطريقة في التعامل مع الأطفال اللوزة الدماغية – التي تحتوي على الذاكرة العاطفية والحسية لدى الإنسان – قصة جديدة يتفاعل معها عقل الطفل وتحلّ بالنهاية محل ذكرى التجربة السلبية التي عاشها. ومن منظور الأطفال هم لم يعودوا ضحايا بل أصبحوا أبطالاً خارقين. هكذا يكون العلاج أقوى فعاليةً خلال ما يسمى بـ 'الساعة الذهبية" التي تلي الحادثة التي سببت الاضطراب النفسي.

"نحن مقتنعون بأن الرعاية النفسية يجب أن ترافق الإسعافات الأولية أو تكون مكملة لها".

image title
تسعى منظمة 'هيومانيتي كرو' من خلال الرعاية والعلاج النفسي إلى تحويل الاضطرابات النفسية لدى اللاجئين من عقبات إلى مصادر قوة وتمكين. الصورة: هيومانيتي كرو.
image title
وصل عصام داود وزوجته ماريا إلى جزيرة ليسبوس في أواخر عام 2015 مع بدء تفاقم أزمة اللاجئين هناك. الصورة: ماتياس كيرنو كوستا.

نستخدم داخل المخيمات مقاربة الثلاث خطوات. نبدأ بالعمل مع جميع سكان المخيم، حيث نبث فيهم الحماس والنشاط ونحثهم على المشاركة. فإذا كنت حلاقاً ندعوك لقص شعر الآخرين، وإذا كنت معلماً نطلب منك أن تباشر بالتعليم، وهكذا دواليك. نحتفل بأعياد ميلاد اللاجئين وبمختلف المناسبات. ومع مرور الوقت يتمكن فريقنا الصغير من أن يحدد أولئك الذين استفادوا من هذا العلاج الجماعي، ومن هم بحاجة للمتابعة من خلال الدعم الشخصي المركّز – والذين يشكّلون عادة ما بين 5 و8 بالمئة من سكان المخيم. 

تتمثل إحدى عوامل النجاح في مهمتنا في أن لغة واحدة وثقافة مشتركة تجمع بيننا وبين اللاجئين. نحن فلسطينيون ونعرف كيف نتواصل ونقيم الروابط معهم. نعيش حياة مشتركة في المخيم ونتشارك في الأنشطة، ونغني ونرقص معاً على أنغام الأغاني العربية. وعلى سبيل المثال، نجلب لهم زيت الزيتون والزعتر والمناقيش، ما يوفر لهم النكهة والمذاق المرتبطين بوطنهم وماضيهم وطفولتهم. قال لي أحدهم، "كنت قد نسيت رائحة أمي لفترة طويلة. أما الآن فأنا أتذكرها جيداً". تساعد استعادة هذه المشاعر الحسنة والذكريات الطيبة اللاجئين على تخفيف آثار الصدمات التي عانوا منها وتخطي العوائق والشوائب النفسية التي فرضتها الظروف عليهم. 

خلال أول ستة أشهر من وجودنا كمنظمة اعتمدنا على دعم المانحين الأفراد. أذكر أنه في أحد الأيام كان رصيدنا في البنك لا يتعدى 6 دولارات، وانتاب كل من حولي الهلع؛ فحثثتهم على التحلي بالصبر والتفاؤل. وكان من مشيئة القدر أن قام أحد الناجين من محرقة اليهود في اليوم التالي بالتبرع لنا بمبلغ 30,000 يورو. 

وقام فاعل خير آخر بإرسال ممثل عنه إلى مكتبنا ليساعدنا على إنشاء حساب آيبان مصرفي عندما علم بأننا لا نمتلك مثل هذا النوع من الحسابات. كان رواد العطاء أولئك أشبه بالملائكة الحارسة بالنسبة لنا. 

في عام 2018 أصبحت زميلاً في سلسلة "محاضرات تيد' (TED Talks) وقدمت محاضرة في فانكوفر. كانت هذه بداية لاجتذاب العديد من المؤسسات الأكبر حجماً التي سعت للتعاون معنا وتقديم المساعدة. نحن دائماً متفائلون، ونتعامل مع مانحينا كأنهم أفراد أسرتنا. فالأفراد أو المؤسسات الذين يدعموننا يفعلون ذلك لأنهم يثقون بنا ومقتنعون بعملنا.

مشكلتنا الأكبر بشكل عام هي في اقناع الآخرين بأن ما نفعله عنصر أساسي في المساعدات الإنسانية. من ناحية أخرى، هناك العديد من الأشخاص الذين يعملون في الخطوط الأمامية للأزمات الإنسانية غير مؤهلين للقيام بمهامهم أو أنهم متطوعون لفترات قصيرة – وهذا من شأنه أن يتسبب بأضرار متعددة. يتشكل العاملون معنا من فئتين؛ المتطوعون الذين تلقوا التدريب اللازم والذين يلتزمون بالعمل معنا لفترة تتراوح بين الشهر والثلاثة أشهر، وفريق عملنا المحترف والدائم الذي يشرف على عمل المتطوعين. نطلق حملة تجنيد للمتطوعين كل ثلاثة أشهر، لكننا حريصون على انتقاء من يعمل معنا. فمن بين كل 1,000 مرشح قد نختار 300 للتدريب، لكن لا يبقى معنا منهم بالنهاية أكثر من نحو 50 متطوعاً فقط. كما نقدم التدريب المستند إلى الخبرة للعاملين في مجال المساعدات الإنسانية أو المجموعات الأخرى. ويتضمن منهجنا في 'تدريب المدربين' مراعاة الأمور الحساسة المرتبطة باللغة والثقافة لدى متلقي المساعدة، بالإضافة إلى الصحة النفسية، لضمان أن يكون المدربون منسجمين ثقافياً مع الفئات التي يقدمون لها المساعدة. 

من المؤسف أن الصحة النفسية لا تلقى نصيبها من الاهتمام في حياتنا اليومية، لا سيما في وقت الأزمات عندما يتم تقنين الموارد، على الرغم من أنها حجر الزاوية في عملية التكامل والشمول المجتمعي. إذا لم نستثمر في الصحة النفسية للاجئين، فستبقى نفوس الكثيرين منهم محطمة وقد ينتهي الأمر بتبني بعضهم لسلوكيات سلبية. من ناحية أخرى، سيكون اللاجئون الذين يتم دعمهم مساهمين في المجتمع، ومن المرجح أن يكونوا متعلمين ومنتجين وأن يحصلوا على وظائف – ومن المستبعد أن يتبنى أحدهم أفكاراً متطرفة. إن فوائد الصحة النفسية الجيدة عديدة وطويلة الأجل. ولنتذكر أن كل لاجئ يرغب بالعودة لوطنه والمساهمة في إعادة إعماره عند انتهاء الأزمة. — PA

 

"هناك العديد من الأشخاص الذين يعملون في الخطوط الأمامية للأزمات الإنسانية هم غير مؤهلون لمهامهم أو يتشكلون من المتطوعين العاملين على فترات قصيرة – وهذا من شأنه أن يتسبب بأضرار متعددة".

image title image title image title image title
يخاطر آلاف اللاجئين من سوريا والعراق والسودان وأفغانستان والكونغو بحياتهم سنوياً أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا عن طريق البحر. هذه اللقطات هي من مجموعة صور بعنوان "محجوزون في موريا" للمصور روبن هاموند/أطباء بلا حدود.

اقرأ المزيد