بيل غيتس يتحدث عن التصدي للجوع في العالم

تبين لنا الحرب في أوكرانيا أن مشكلة الجوع لا يمكن حلها بالاعتماد على المساعدة الإنسانية وحدها. في هذه المقالة، يوضح بيل غيتس لماذا من الضروري أيضاً الاستثمار في البحث والتطوير في مجال الزراعة.

في شهر فبراير، تسبب غزو روسيا لأوكرانيا في توقف تدفق الحبوب من أوروبا إلى أفريقيا، الأمر الذي أدى إلى خلق أزمة إنسانية أخرى في قارة ثانية. وكانت أربع عشرة دولة أفريقية تعتمد على أوكرانيا وروسيا في الحصول على نصف احتياجاتها من القمح. وقد توقف نقل تلك الشحنات من القمح الآن، وأدت الصدمة التي هزت الإمدادات إلى ارتفاع سعر القمح البديل ليبلغ أعلى مستوى له منذ 40 عاماً.

في نهاية المطاف، أخذت الأسعار في الهبوط في شهر مايو، ولكن قبيل ذلك، كنا قريبين من حدوث مجاعة، مما دفع زعماء العالم إلى دق ناقوس الخطر والمطالبة بإرسال مساعدات، بما في ذلك الأموال والغذاء، إلى بلدان جنوب الصحراء الكبرى فوراً.

وحتى قبل الحرب في أوكرانيا، كان حجم المساعدات الغذائية يرتفع ارتفاعاً كبيراً، ومن المتوقع أن يستمر في الارتفاع حتى نهاية العقد.

وذلك شيء جيد جداً وضروري من ناحية، إذ أن العالم ينبغي له أن يكون سخياً وأن يمنع الناس من التعرض للجوع. ولكن من ناحية أخرى، لا يحل ذلك المشكلة الأكبر. فلا ينبغي أن يقتصر الهدف على تقديم المزيد من المعونة الغذائية بل يجب أيضاً ضمان انعدام الحاجة إلى أي مساعدة في المقام الأول.

إن الإمر يستحق أن نتوقف لنطرح سؤالاً أساسياً: لماذا هددت أزمة في أوروبا الشرقية بتجويع ملايين الأشخاص على بعد آلاف الكيلومترات؟

إنها مسألة معقدة. ولكن الأمر يتعلق في الغالب بالأماكن التي يسهُل فيها إنتاج الغذاء والأماكن التي لا يسهُل فيها ذلك.

منذ الستينات، ازدادت الإنتاجية الزراعية في جميع أنحاء العالم. فقد شهد المزارعون زيادة في حجم محاصيلهم، إلا أن هذه الزيادة لم تحدث في كل مكان بنفس المعدلات.

ففي الصين والبرازيل مثلاً، نمت المحاصيل بشكل كبير، في حين ظلت الإنتاجية في العديد من بلدان جنوب شرق آسيا — لاوس وكمبوديا على سبيل المثال — دون المتوسط العالمي. أما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فكان نمو المحاصيل بطيئاً جداً مقارنة بنمو المحاصيل في أي مكان آخر من العالم، بل لم يبلغ حتى المستوى الكافي لسد احتياجات السكان المحليين.

وعندما تعجز منطقة ما عن إنتاج ما يكفي لإطعام سكانها، فما من خيار أمامها إلا استيراد الغذاء، وهو ما تفعله أفريقيا بتكلفة تبلغ نحو 23 مليار دولار أميركي سنوياً.

"يتعين علينا أن نغير طريقتنا في النظر إلى الجوع في العالم ... إنها مسألة معقدة. ولكن الأمر يتعلق في الغالب بالأماكن التي يسهُل فيها إنتاج الغذاء والأماكن التي لا يسهُل فيها ذلك".

بيل غيتس - تقرير مناصري الأهداف لعام 2022

image title

إن تدني الإنتاجية الزراعية له صلة وثيقة بالظروف التي يعمل فيها المزارعون الأفارقة. فأغلب الناس يتكسبون من زراعة قطع صغيرة جداً من الأراضي، وغالباً ما لا تتجاوز مساحتها هكتاراً واحداً، ولا يستخدمون ما يكفي من الري أو الأسمدة، لذا فكلما حدثت صدمة للنظام الغذائي الأوسع، ورافقها انخفاض إجمالي الإمدادات الغذائية العالمية، لا يستطيع هؤلاء المزارعون زراعة ما يكفي لسد العجز. وعندئذ يعاني الناس من الجوع.

هذه المرة كانت الصدمة عبارة عن حرب أدت إلى قطيعة بين مزارع أوروبا الشرقية وسلسلة الإمدادات العالمية، ولكن في المرة القادمة قد تكون الصدمة من نوع مختلف، كأن تحدث موجة جفاف أو موجة حر تدمر مزارع بأكملها في مختلف أنحاء أفريقيا. وفي واقع الأمر، فإن هذا السيناريو هو الأكثر احتمالاً.

وهنا يبدأ الحديث عن تغير المناخ. تسببت الحرب في أوكرانيا في تعطيل كبير للإمدادات الغذائية العالمية، ولكن تغير المناخ يمثل مشكلة أكبر بكثير. إنه أكبر تهديد للإنتاج الغذائي منذ اختراع الزراعة، وخاصة في أفريقيا حيث تتدهور البيئة بسرعة أكبر من أي مكان آخر في العالم.

ولكي نرى بشكل أكثر وضوحاً التأثير المحتمل لتغير المناخ على الزراعة في أفريقيا، قامت مؤسستنا مؤخراً بدعم تطوير أداة للعرض المرئي للبيانات تحت مسمى "أطلس التكيف الزراعي". وعندما رأى الخبراء النتائج المرئية، أصيبوا بالهلع. إن أسهل طريقة للفهم تتمثل في التركيز على محصول واحد: الذرة.

تمثل الذرة نحو 30 بالمئة من كل السعرات الحرارية التي يتناولها البشر في البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. إنه محصول مهم للغاية، ولكنه أيضاً محصول حساس. فعندما تتجاوز درجات الحرارة 30 درجة مئوية، تتعثر عملية النمو؛ يتباطأ التلقيح وعملية التركيب الضوئي. وكل درجة إضافية فوق 30 درجة مئوية يومياً تؤدي إلى انخفاض غلة المحاصيل بنسبة واحد بالمئة على الأقل. على سبيل المثال، إذا كانت درجات الحرارة تبلغ 35 درجة مئوية على مدى خمسة أيام، فهذا يعني خمسة مضروب في خمسة، أي ضياع 25 بالمئة من المحصول.

نورد فيما يلي ما يتنبأ به "أطلس التكيف في الزراعة": بحلول نهاية هذا العقد، سيُنتج 30 بالمئة من محصول الذرة في أفريقيا في هذه الظروف. وسيكون الحال كذلك بالنسبة لجميع مصادر الغذاء الأخرى، من المحاصيل إلى الماشية. إن الإجهاد المناخي الشديد هو العامل الرئيسي الذي من المتوقع أن يتسبب في تعرض 32 مليون شخص آخرين في أفريقيا للجوع في عام 2030.

وبالنسبة للمزارعين الذين يزرعون مساحات صغيرة من الأراضي، فلا توجد حلول واضحة كثيرة أمامهم. ففي دراسة مسح أجراها البنك الدولي والحكومة النيجيرية، سُئل المزارعون: "كيف تستجيبون لانخفاض إنتاجية المحاصيل؟"، وكانت الإجابتان الثانية والثالثة من حيث التكرر تتلخصان في "تناول كميات أقل" و"بيع الماشية"، في حين كانت الإجابة الأولى "لا نفعل شيئاً".

لكن من حسن الحظ أن هناك خيارات أخرى أفضل. قبل أربعة عشر عاماً، بدأت مؤسستنا في دعم مجموعة من الباحثين الأفارقة في مجال المحاصيل. وكان هدفهم يتلخص في تطوير صنف جديد من الذرة، أو ما بدأت أطلق عليه اسم "البذور السحرية".

بطبيعة الحال، لم تكن البذور سحرية حقاً، وإنما كان الباحثون يؤمنون بأنهم قادرون على إنتاج ذرة هجينة تكون أكثر قدرة على مقاومة مناخات أكثر حرارة وجفافاً، وذلك عبر إنتاج أصناف منتقاة من المحاصيل. وهو ما نجحوا في تحقيقه نجاحاً كبيراً.

حين قارن الباحثون في كينيا بين الأراضي المزروعة بهذا الصنف الجديد من الذرة، والتي أطلقوا عليه "دراوت تيغو" (RDroughtTEGO) ، وبين الأراضي المزروعة بالصنف القديم، رأوا بأن مزارع "دراوت تيغو" كانت أكثر إنتاجاً للحبوب بمقدار 66 بالمئة  لكل فدان في المتوسط. وهذه الكمية تكفي لإطعام أسرة مكونة من ستة أفراد لمدة عام كامل، وعلاوة على ذلك، سيكون لديها فائض كبير من الذرة يمكنهم بيعه مقابل حوالي 880 دولار أميركي، وهو ما يعادل خمسة أشهر من الدخل للمواطن الكيني المتوسط. وهذا يعني أنه سيكون بوسع العديد من المزارعين تحمل تكاليف إرسال أبنائهم إلى المدارس أو بناء منازل جديدة إذا تحولوا إلى زراعة "دراوت تيغو".

ويمكننا أن نعاين هذا النوع من الابتكار في المجال الزراعي في مختلف أنحاء العالم، كما في البنجاب مثلاً. فالمزارعون في هذه المنطقة يزرعون نوعي الحبوب الرئيسيين في الهند: الأرز في موسم الإمطار والقمح في فصل الشتاء الجاف شمال البلد. غير أن تغير المناخ بات يقوض سبل عيشهم.

ففي عام 2010، ثم مرة أخرى في عام 2015، حولت موجات الحرارة المبكرة الموسم الرطب إلى موسم جاف، مما أدى إلى إتلاف محاصيل الأرز. ورداً على ذلك، عمل المزارعون المحليون مع جامعة البنجاب الزراعية لإيجاد حل جديد: صنف من الأرز قصير الأمد يتطلب ثلاثة أسابيع أقل لحصاده، ما يعني أنه يمكن حصاده قبل أن تتلف موجات الحرارة الناجمة عن تغير المناخ المحاصيل. كما سمح هذا الحل للمزارعين بزراعة قمحهم في وقت مبكر. بفضل بذرة واحدة كان بمقدور البنجاب زيادة مردود محصولين اثنين.

إن ابتكارات مثل الذرة والأرز قصير الأمد من صنف "دراوت تيغو" تمنحني الكثير من الأمل في استمرار تحسن الإنتاجية الزراعية رغم تغير المناخ. ولكني أتمنى أن يتم تبني هذه البذور الجديدة بسرعة أكبر. ولا يزال الاستثمار في البحث والتطوير في مجال الزراعة ضئيلاً للغاية.

image title

"لا تنتج العديد من البلدان غذاءً كافياً حتى يومنا هذا، كما أن تغير المناخ يجعل الزراعة أكثر صعوبة. ولا يمكن مواجهة هذا التحدي بالتبرعات. بل ما نحتاج إليه هو الابتكار".

بيل غيتس - تقرير مناصري الأهداف لعام 2022

إن المزارعين يحتاجون إلى الدعم بطرق مختلفة عديدة، مثل التمويل البالغ الصغر، ليكون بوسعهم شراء الأسمدة أو البنية الأساسية الريفية، مثل الطرق الجديدة التي تسهّل عليهم نقل محاصيلهم إلى السوق. وحتى "البذور السحرية" تحتاج إلى استثمارات أخرى ليستمر سحرها في العمل.

ويجب أن تخضع هذه البذور للضوابط اللازمة أيضاً. فبالنسبة للبلدان التي ترغب في الاستفادة من هذه الابتكارات وغيرها، فمن المفيد لها أن يكون لديها نظم وسياسات قوية للمساعدة في تقييم الإداء والسلامة بينما تقدم المنتجات إلى صغار المزارعين بكفاءة. وهذا أمر حاسم إذا ما أردنا أن نوصل أحدث تقنيات البذور إلى المزارعين بأقصى سرعة ممكنة.

إن الأرز قصير الأمد والذرة "دراوت تيغو" ينتجان محاصيل ضخمة اليوم، إلا أنه ليس من المضمون أن تستمر هذه المحاصيل في 2030 أو 2050. وسوف يتعين على المزارعين أن يزرعوا أصنافاً جديدة من البذور مع تغير البيئة على نحو لا يمكن التنبؤ به.

كيف يحدد المزارعون والباحثون نوع هذه البذور؟ أو متى يجب زرعها؟ لا يمكننا أن نعتمد على الأشياء التي حققت نجاحاً سابقاً.

فعلى مر التاريخ، تطورت الزراعة بوتيرة بطيئة، حيث كان بوسع المزارعين إجراء تغييرات وتحسينات على مر القرون لأن الظروف ظلت كما هي تقريباً. لم تكن المزارع تختلف عن مزارع الأجداد إلا قليلاً، فكان المزارعون يزرعون ما كان يزرعه أجدادهم في الموعد نفسه، وربما كانوا يدخلون بعض التغييرات الطفيفة.

وفي الوقت نفسه، كان إنتاج أفضل المحاصيل عملية يدوية بطيئة إلى حد كبير يقوم بها عدد قليل من مربي النباتات الحديثين. إن منظومة CGIAR (المعروفة سابقاً بالفريق الاستشاري للبحوث الزراعية الدولية) هي أكبر شبكة من مربي المحاصيل على مستوى العالم، وفي أفريقيا ليس لديهم إلا ثلاثة أشخاص يعملون على انتقاء أفضل أصناف الفول من بين الملايين من الخيارات الممكنة.

يتعين علينا أن نسرع عملية تربية النباتات هذه. ويتلخص أحد الحلول فيما يطلق عليه الباحثون "النمذجة التنبؤية". فبرامج الذكاء الاصطناعي هي التي تعالج التسلسل الجينومي للمحاصيل إضافة إلى البيانات البيئية — كل شيء من عينات التربة إلى صور الأقمار الصناعية — ثم تستحضر صورة قائمة على البيانات بشأن ما ينبغي أن تكون عليه المزارع في المستقبل.

واستناداً إلى هذا النموذج الحاسوبي، يمكن للباحثين تحديد ما هو صنف النبات الأنسب لمكان معين. أو يمكنهم القيام بعكس ذلك: تحديد المكان الأنسب لزراعة محصول معين.

لا تزال هذه التكنولوجيا في مراحلها الأولى، ولكن هناك نماذج تنبؤية مماثلة — تلك التي تتوقع الأماكن التي قد تتعرض فيها المزارع لأنواع غازية أو لأمراض المحاصيل — وقد حققت هذه النماذج نتائج كبيرة.

على سبيل المثال، أعرب المزارعون في أثيوبيا العام الماضي عن خشيتهم من أن يؤدي تفشي مرض يسمى صدأ القمح إلى تدمير محاصيل البلاد، ولكن بفضل "نظام إنذار مبكر" تم تنبيه المزارعين إلى الأماكن التي قد ينتشر فيها الصدأ على وجه التحديد، فكان بوسعهم اتخاذ تدابير وقائية. وبحلول نهاية عام 2021، لم تشهد أثيوبيا أي انخفاض في إنتاجها من محاصيل القمح على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، حصد البلد أكبر كمية من المحاصيل في تاريخه.

قد يكون الجوع مشكلة لا يمكن حلها بالكامل. فلا أحد يستطيع أن يعد بصفة جازمة بأن كل فرد من سكان الأرض البالغ تعدادهم ثمانية مليارات نسمة سوف يكون لديه دوما ما يكفي من الطعام. ولكن ماذا عن ضمان قدرة بلدان جنوب الصحراء الكبرى وغيرها من البلدان ذات الدخل المنخفض في المناطق الأخرى على إطعام شعوبها؟ إنه هدف قابل للتحقيق، لكن شرط أن يغيّر العالم الكيفية التي يتعامل بها مع الأزمات الغذائية.

إنه لأمر جيد أن يرغب الناس في منع إخوانهم من بني البشر من التضور جوعاً عندما تؤدي صراعات مثل الحرب في أوكرانيا إلى انقطاع الإمدادات الغذائية، ولكن يتعين علينا أيضاً أن ندرك بأن هذه الإزمات تشكل أعراضاً لمشكلة أشد عمقاً، إذ أن العديد من البلدان لا تنتج (غذاءً) كافياً حتى يومنا هذا، كما أن تغير المناخ يجعل الزراعة أكثر صعوبة. ولا يمكن مواجهة هذا التحدي بالتبرعات، بل ما نحتاج إليه هو الابتكار. -PA