اللـــحـــظـــة

التاريخ: 11 مارس 2020

الوباء الذي أوقف العالم

قلبت جائحة كوفيد-19 الحياة اليومية العصرية رأساً على عقب، بما في ذلك دور ريادة العطاء وعمل الخير.

بعد أقل من ثلاثة أشهر على ظهور فيروس غامض في مدينة ووهان الصينية، أعلنت منظمة الصحة العالمية عن حالة طوارئ عالمية بسبب انتشار وباء جديد. ومع بداية شهر أبريل، كان نصف سكان العالم قد وضعوا في حالة حظر على التجوّل أو إغلاق في محاولة من الحكومات للحد من انتشار الفيروس وتخفيف الأعباء الهائلة التي بات قطاع الخدمات الصحية يرزح تحتها.

وتعطلت الحياة العصرية كما نعهدها بعد أن توقفت الرحلات الجوية وأُغلقت الحدود بين الدول، وأُقفلت المحلات ومكاتب الشركات التجارية وكافة المدارس. كما انهارت الأسواق المالية وتم تأجيل كبريات الأحداث التي اقترب موعدها مثل الألعاب الأولمبية في طوكيو وإكسبو 2020 دبي.

وما تزال الحصيلة النهائية على المدى الطويل لجائحة كوفيد-19 غير واضحة، لكن مما لا شك فيه أن هذا الفيروس شكل أكبر تحدٍ للأنظمة الصحية في العالم منذ اندلاع 'الإنفلونزا الإسبانية' عام 1918، التي أودت بحياة ما يزيد عن 50 مليون شخص. كما أصبح لغاية اليوم أكبر حدث معطل لعجلة الاقتصاد وشؤون المجتمع منذ الحرب العالمية الثانية – في ظل سرعة انتشار هذا الوباء التي تتخطى قدرة العالم على الاستجابة الفعالة.

وخلافاً لما كانت عليه الحال عند اندلاع وباء إيبولا في أفريقيا – الذي لم يعيره باقي سكان العالم اهتماماً إذ شعروا بأن مسافاتٍ طويلةً تفصلهم عنه – فإن فيروس كورونا قد ضرب في عمق العالم المتقدم. وهكذا أصبحت الجائحة على أعتاب كل المجتمعات أينما كانت، بغض النظر عن مدى ثرائها أو الحواجز الجغرافية التي تفصلها عن غيرها.

وكما يحوّل فيروس كورونا الطريقة التي تعمل بها الحكومات والأعمال والمجتمعات، من شأنه أيضاً أن يعيد تعريف دور ريادة العطاء والعمل الخيري في التعامل مع المخاطر العالمية المتزايدة.

كان حضور ريادة العطاء في غالبيته ضعيفاً في الحملات الداعية لمعالجة القضايا العالمية التي كانت لا تزال تعد بطيئة في نموها وحدتها مثل تغير المناخ والاستجابة للأوبئة المحتملة اللتين لم تتلقيا تاريخياً إلّا الجزء الضئيل من مساعدات المانحين. مع ذلك، فقد تغيّر الموقف بشكل كبير خلال بضعة أسابيع فقط ليصبح كل من المانحين والمؤسسات الخيرية على الخطوط الأمامية في الحرب ضد جائحة كوفيد-19، وهم يعلنون عن الاستجابة العاجلة في تمويل المختبرات بهدف التسريع في إيجاد لقاح للفيروس وتقديم الدعم اللازم لاحتوائه.

فعلى سبيل المثال، تعهدت مؤسسة بيل وميليندا غيتس بأكثر من 250 مليون دولار لتمويل الوكالات العاملة في مجال الصحة في الولايات المتحدة، ودعم عمليات الكشف عن الإصابات والعلاج للفئات الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس في أفريقيا وآسيا. كما استحدثت صندوقاً بقيمة 125 مليون دولار مع شركة الأدوية 'ويلكوم' و'ماستركارد' للتسريع في تطوير علاجات لفيروس كورونا، وإزالة الحواجز التي تعيق تطوير الأدوية اللازمة. من ناحية أخرى، أتاحت المؤسسة 'صندوق الاستثمار الاستراتيجي' الخاص بها وأدواته – من الاستثمار بالأسهم، والقروض، وضمانات الحجم – والذي تبلغ قيمته 2.5 مليار دولار لمساعدة الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل على شراء المستلزمات وأدوات الاختبار وأجهزة الوقاية للعاملين الصحيين.

image title image title image title image title image title image title
أدى إغلاق المكاتب والمتاجر وحظر التجول بسبب فيروس كورونا إلى جمود اقتصادي عالمي تام. الصورة: غيتي إميجيز.

أما جاك دورسي، الرئيس التنفيذي لتوتير، فقد تعهد بالتبرع بمبلغ مليار دولار لتمويل الأبحاث حول فيروس كورونا، وهو أكبر تبرع فردي يتم الإعلان عنه منذ انتشار المرض.

من جهتها، أطلقت منظمة الصحة العالمية 'صندوق الاستجابة للتضامن من أجل مكافحة فيروس كورونا'. ويسمح هذا الصندوق الذي تستضيفه مؤسسة الأمم المتحدة United Nations Foundation، ومقرها نيويورك، والمؤسسة الخيرية السويسرية لجميع الأفراد والشركات والمؤسسات الراغبين بالمساهمة في التبرع لجهود الاستجابة للوباء.

أما منظمة Candid.org الأميركية التي تعمل على تتبع تدفق تمويل المنظمات غير الربحية وأثرها من خلال جمع البيانات، فقد رصدت تخصيص 1,952 منحة من قبل 545 شركة ومؤسسة لقضايا ذات صلة بفيروس كورونا. وقد زادت قيمة هذه المنح عن 8.3 مليار دولار تم تقديمها لـ 1,242 جهة عالمية مستفيدة شملت الحكومات وهيئات الصليب الأحمر والهلال الأحمر ومنظمات أخرى تعمل على الخطوط الأمامية لمكافحة الفيروس.

يمكن اعتبار جائحة كوفيد-19 على أنها توفر عرضاً تمهيدياً عن دور المخاطر المشتركة مثل تغير المناخ والطوارئ الصحية في إعادة تشكيل عالمنا في المستقبل. ففي ظل معيقات كامنة مثل النقص في الجهوزية ووجود نظم هشة للرعاية الصحية والوقاية ضد الأمراض، أتانا فيروس كورونا بمخرجات وخيمة ليذكرنا بالروابط التي تجمع سكان كوكبنا وينبهنا للعواقب الكبيرة الناجمة عن نظم تفتقر للتمويل ويضعف فيها الاستعداد.

وبينما يعيد رواد العطاء حساباتهم وينشغل القطاع الخيري بتوجيه طاقاته للمساهمة في مكافحة جائحة كوفيد-19 ومعالجة آثارها، تبرز فرصة لتعزيز تحول على المدى الطويل في كيفية تعامل القطاع غير الربحي مع التحديات المستقبلية وهي في طور النشوء. ومن هذا المنطلق قد يوفر لنا الفيروس نقطة انعطاف تاريخية إذ يقدم حافزاً للمانحين لكي يعيدوا النظر في استجابتهم للمخاطر المتقاطعة والمتعددة الجوانب والتي لا تلقى إلّا القليل من الاهتمام أو التمويل، لكن تداعياتها قد تطال العالم بمجمله.

سوف يحدد مستوى استجابة العالم لفيروس كورونا اليوم شكل المستقبل، ويسهم في تحديد مدى عافية وازدهار الاقتصادات والدول على مدى السنوات القادمة. ومن شأن قطاع العطاء والعمل الخيري أن يكون على الخطوط الأمامية للدفع بتغيير النظم العالمية – إن هو اختار الاستفادة من هذه الفرصة. — PA

اقرأ المزيد