بناء المستقبل

تعرفوا على منظمة الشتات التي تجلب الأمل للأطفال والشباب السوريين الذين يعانون من الحرمان بعد نصف عقد من النزاع.

في صيف عام 2012، كان هاني جسري، مثله مثل الآلاف غيره من السوريين الذين عاشوا تلك الفترة الدموية، يتملكه القلق وهو يبحث عن طريقة للخروج من العاصمة دمشق ومغادرة سوريا كلياً. يعود جسري بذاكرته إلى تلك الأيام، قائلاً: "في فترة قصيرة تغير كل شيء أمامي إلى الأبد؛ سواء كانت أحلامي أو خططي للمستقبل. كان أمر مدمراً نفسياً".

كان جسري، وهو شاب ولد ونشأ في مدينة حلب وتخرج من كلية علوم الاقتصاد، يتوقع أن يبني مستقبلاً في سوريا من خلال العمل مع إحدى المنظمات غير الحكومية العاملة في تحسين حياة الأطفال والشباب. لكن بعد أن انحجب التمويل البسيط الذي كانت تتلقاه مشاريع التنمية الطويلة الأجل وتم تحويله إلى جهود الإغاثة العاجلة، لم يبق لجسري إلا محاولة الهروب من دائرة العنف والاقتتال.

أتى بريق الأمل عن طريق موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، عندما أعلنت منظمة غير ربحية صغيرة تدعى "جسور" عن توفيرها فرص عمل تدريبية لمدة تسعة أشهر غير مدفوعة. قدم جسري الطلب وتم قبوله، وكان ذلك بداية رحلة أخذته إلى لبنان ومنها إلى المملكة المتحدة. واليوم، وبعد انقضاء خمس سنوات على ذلك الصيف يعيش جسري، وهو في التاسعة والعشرين من العمر، في لندن. وهو يقول أن الفضل بما وصل إليه يعود إلى منظمة جسور التي فتحت له عالماً من الفرص. 

ويضيف: "بالنسبة لشخص مثلي في سوريا في وقت كانت فيه إمكانية الوصول إلى الفرص محدودة جداً، منحتني "جسور" فرصة ثانية. كما أنها أعادت لي الأمل في بلدي ومستقبله". 

وُلدت فكرة "جسور" لدى مجموعة صغيرة من المغتربين السوريين، وهي تهدف إلى تقديم برامج في التعليم والتدريب المهني في مختلف أنحاء العالم. وخلال الست سنوات الماضية منذ إطلاقها، استطاعت المنظمة أن تقنع السوريين في دول الشتات بالتبرع لدعم شباب سوريا بما وصلت قيمته إلى 5.6 مليون دولار. 

والشأن الذي لا يقل أهمية هو أن المنظمة تمكنت من حشد خبرات السوريين في الشتات للمساعدة، وأصبحت شبكة علاقاتها تضم اليوم أكثر من 100,000 شخص في نحو 50 بلداً.

“ما فعلته جسور هو توفير منصة لكل مواطن سوري ترك بلده لكي يردّ الخير بالخير".

عزيزة عثمان، عضو مجلس إدارة منظمة جسور.

لم تأتِ فكرة منظمة جسور بسبب الحرب في سوريا، إذ أتى الإلهام بتأسيسها قبل اندلاع النزاع عام 2011 ببضعة أسابيع فقط. كانت مجموعة صغيرة من المغتربين تناقش فكرة إطلاق برنامج تعليمي وتوجيهي بهدف مساعدة السوريين الذين يتطلعون للالتحاق بالجامعات خارج سوريا. لم تكن المجموعة قد حسمت أمرها بعد، لكن اشتعال الاضطرابات جعلهم يسرعون في عملية تنفيذ الفكرة وتطويرها أكثر لتشمل آلية التمويل والدعم الفكري من الخبرات المتوفرة.

وتقول دانيا اسماعيل، إحدى مؤسسي "جسور": "تعد الجالية السورية حول العالم كبيرةً جداً، فهي تقدر بنحو 20 مليون شخص، أي أنها تعادل تعداد السكان داخل سوريا. وعندما لاحظنا عدم وجود شبكة تجمع بين هؤلاء الناس، قررنا أن نلعب هذا الدور وأن نبني جسراً لمساعدة السكان داخل سوريا".

وبالنتيجة استطاعت "جسور" أن تنظم برنامج منح دراسية يضم ائتلافاً من أكثر من 70 مؤسسة ليوفر منحاً كاملة أو جزئية للشباب السوريين. ولغاية اليوم نجح البرنامج في توفير مقاعد دراسية لما يزيد عن 500 طالب في جامعات في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا والشرق الأوسط وآسيا.

كما وفرت "جسور" مرشدين جامعيين لأكثر من 600 طالب لتقديم النصح والتوجيه لهم في عملية تقديم طلبات القبول في الجامعات واختيار الاختصاصات التي تنسجم مع طموحاتهم وقدراتهم، وغيرها من القرارات الأكاديمية التي ستشكل مسارهم المستقبلي.

وتعلّق عزيزة عثمان، وهي رائدة مشاريع اجتماعية ومستشارة للأعمال الناشئة، قائلة: "كمغترب سوري، فأنت بطبيعة الحال ستقارن وضعك بوضع الشباب داخل سوريا. ما فعلته جسور هو توفير منصة لكل مواطن سوري ترك بلده لكي يردّ الخير بالخير".

وقد ساعدت مصداقية المنظمة في أدائها على جذب الدعم والمحافظة على المانحين، إذ تنشر تقارير دورية مفصلة عن أعمالها، كما تحافظ على تكاليف تشغيلية تقل عن 10 بالمئة من إجمالي الإنفاق. ويوفر المانحون الأفراد 51 بالمئة من تمويل "جسور"، بينما توفر الشركات 36 بالمئة أخرى، وتغطي المؤسسات الإنسانية ما تبقى. ولا تتوقف مساهمة القطاع الخاص عند حد التمويل، إذ تخصص الشركات المتعددة الجنسيات الرائدة في المنطقة وخارجها بعضاً من وقتها ومواردها الفكرية للمساهمة بطرق مختلفة.

ويوضح رامي زيات، وهو أحد مؤسسي "جسور"، قائلاً: "إنهم [الشركات] يرغبون في رد الجميل إلى المجتمع. كما يريدون المساهمة في مختلف القضايا، والعديد منهم يرغب في المساعدة ليس بالمال فحسب، بل بوقت موظفيهم وخبراتهم كذلك".

ربما يكون أثر الدعم الذي تقدمه الشركات الكبرى أكثر وقعاً عند النظر في ورش عمل التطوير الوظيفي التي يتم تنظيمها مع "جسور" في دبي، والتي انطلقت عام 2012 استجابة لتدفق الشباب السوريون هرباً من الحرب وبحثاً عن العمل في دول الخليج. تعمل الشركات الخاصة ضمن هذه المبادرة على استضافة ورش عمل تمتد ليوم أو يومين يتم خلالها تدريب الشباب على اختيار مهنة المستقبل والبحث عن الوظيفة المناسبة، فضلاً عن رفع مستوى مهاراتهم العامة مثل كتابة السيرة الذاتية، وكيفية التحضير للمقابلات وتطوير ملف مهني خاص بهم.

image title

وتنظم "جسور" أيضاً برنامجاً لريادة الأعمال بدعم من الشركات يهدف إلى تحديد قادة أعمال المستقبل في سوريا، ثم ضمهم إلى شبكة دولية من الشركاء والمستثمرين الذين من شأنهم مساعدتهم في توسيع أعمالهم ومنتجاتهم أو طرح أفكار جديدة. 

تواجه الشركات الناشئة في سوريا مجموعة واسعة من العقبات؛ بعضها مرتبط بالوضع الأمني المتدهور كالسلامة الشخصية، وانهيار البنية التحتية، وانقطاع التيار الكهربائي، وبطء الإنترنت؛ والبعض الآخر ذو طبيعة اقتصادية أو بيروقراطية، مثل العقوبات والقيود على التحويلات، والقيود على تنقل الناس والبضائع، وانحسار السوق، وشح التمويل والاستثمار، بالإضافة إلى العمل في بيئة تنظيمية مقيدة، إن لم تكن خانقة للأعمال الجديدة.

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يبدو أنه مع تصاعد معدلات البطالة والفقر بشكل كبير، يتجه العديد من السوريين نحو ريادة الأعمال بشكل متزايد. وتأكيداً على هذا، كشف استبيان شارك فيه 268 سورياً على مدى 12 شهراً عن ازدياد ملحوظ في عدد المشاركين الذين يخططون لتأسيس أعمال ناشئة ــ من 52.2 بالمئة من إجمالي العينة في عام 2014 إلى 65.8 بالمئة في عام 2015.

وقد أدركت منظمة جسور في مرحلة مبكرة ما يتوجب عليها فعله استجابة لنمو هذه الشريحة من رواد الأعمال، حسب ما تفيد اسماعيل التي تمتلك خبرة في شؤون رأس المال المغامر من عملها السابق مع مجموعة شركات "إم بي سي" في دبي. فالمنظمة توفر خدمات الإرشاد والتوجيه لهذه الشريحة، فضلاً عن حاضنات الأعمال والمسابقات لبناء المهارات والثقة بالنفس. 

وتقول اسماعيل: "بحكم عملي، التقيت بالعديد من رواد الأعمال في المنطقة، لكنني كنت أشعر دائماً بأن السوريين منهم كانوا متراجعين قليلاً عن زملائهم من باقي الدول". وتوضح قائلة: "لم تكن فرص النفاذ إلى مرافق التدريب والموارد المعرفية متاحة لهم، كما أن القطاع الخاص لم يصل بعد إلى المرحلة المطلوبة من التطور والنضوج. وقد زاد اندلاع الحرب الطين بلة على جميع الأصعدة. لذا، كان الشعور السائد عموماً هو أن هناك دائماً مجالاً للتحسين".

ولغاية اليوم قدمت أكثر من 700 شركة طلباً للمشاركة في برنامج جسور، شارك منها فعلياً 100 شركة في دورات تدريبية مكثفة في بيروت وبرلين. يلتقي رواد الأعمال الناشئين خلال هذه الدورات بشركاء "جسور" من قادة الأعمال الدوليين ليأخذوا منهم الدروس والعبر، كما يتلقون التدريب على كيفية إعداد نماذج لإقامة الأعمال والهيكلة المالية المرتبطة بها، وكيفية تقديم شركاتهم للممولين المحتملين، وأمور أخرى.

وتمثل المشاركة في البرنامج فرصة ثمينة لا تعوض للبعض؛ على سبيل المثال، كان أحد المشاركين من مدينة حلب عازماً على حضور الدورة رغم ظروف السفر الصعبة، واستغرقت رحلته القصيرة نسبياً من حلب إلى بيروت نحو 26 ساعة بعد أن انحرفت الحافلة التي كان فيها عن الطريق إثر تعرضها لإطلاق نار من قبل جماعة "داعش".

"لقد وصل إلى بيروت متأخراً ثلاثة أيام، لكن المهم هو أنه أتمم الرحلة،" كما تقول اسماعيل. وتضيف: "هناك العديد من القصص المشابهة، إذ يضع المشاركون كل جهدهم سعياً للاستفادة من البرنامج؛ فهو بمثابة شريان حياة لمستقبل مشاريعهم. والأمر الرائع هو ملاحظة التحول الجذري في تفكيرهم بعد إكمالهم أسبوعين فقط من الدورة التدريبية".

image title

يتمثل المحور المهم الثالث لـ "جسور" في البرنامج التعليمي التجريبي لأطفال اللاجئين الذي أُطلق في لبنان عام 2013 تحت إدارة هاني جسري - الذي تبرع لإدارته بعد إتمامه لدورة تدريب وظيفي. وقد ساهم البرنامج حتى الآن - في مراكزه الثلاثة في بيروت ووادي البقاع - في مساعدة 3,400 طفل بعمر الدراسة الابتدائية على ردم الفجوة التعليمية مع المنهاج الرسمي والتي نتجت عن انقطاعهم عن الدراسة إثر الحرب.

وتشرح عثمان الظروف التي أحاطت بالبرنامج، قائلة: "في البداية قمنا بتوفير التعليم المدرسي للاجئين لأن نظام المدارس في لبنان لم يكن متاحاً لهم، إذ كانت المدارس تعمل فوق طاقتها الاستيعابية، وحتى رسوم التسجيل البالغة 60 دولاراً كانت فوق قدرة غالبية اللاجئين".

وتتابع قائلة: "عندما سمحت وزارة التربية اللبنانية بنظام المناوبة لتوفر دواماً تعليمياً ثانياً يقدّم مجاناً في المدارس، التحق العديد من الأطفال السوريين بالمدارس الرسمية. كانت هذه خطوة جيدة، لكننا أدركنا سريعاً أن العديد من هؤلاء التلاميذ لم يكونوا في المستوى الدراسي المناسب لهم ضمن المنهاج اللبناني".

سارعت "جسور" حينها لتدارك المسألة من خلال إطلاقها لدورات إصلاحية مسرّعة تساعد اللاجئين السوريين على تخطي الفجوة المعرفية مع نظرائهم اللبنانيين واللحاق بهم.

"نحن نحاول أن نظهر السوريين من منظور إيجابي، لنؤكد على أنهم شعب ذكي، يمتلك المواهب، وقادر على المساهمة في المجتمع بأشكال وأساليب عدة".

رامي زيات، أحد مؤسسي "جسور".

وتعمل المنظمة اليوم بشكل وثيق، وإن كان بصورة غير رسمية، مع وزارة التربية لضمان أن تسير جهودهما في ذات الاتجاه لمساعدة الأطفال السوريين، سواء كانوا يتعلمون ضمن النظام المدرسي أو خارجه. ويوضح زيات، قائلاً: "مع استمرارنا في النمو، نسعى دائماً لتحديد الاحتياجات لكي نعالجها ونملأ الفراغ. فبعد التأكد من التحاق الأطفال بالمدارس، نتابع حسن سير دراستهم وندعمهم، لأن الفكرة هي ليست فقط توفير المقاعد الدراسية لهم، بل مساعدتهم على النجاح في الدراسة".

وتؤكد اسماعيل أن هناك حاجة ملحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا "الجيل الضائع"، وإعانة الشباب السوريين، ليس في إعادة بناء البنية التحتية فحسب، بل في إعادة بناء المؤسسات أيضاً. وتضيف بأن الفرصة سانحة الآن أيضاً مع الجيل الجديد لتغيير الصورة النمطية التي تشكلت حول السوريين، فتقول: "في الوقت الحاضر لا ينظر الناس حول العالم إلى السوريين إلا كلاجئين، لأن هذا هو كل ما يشاهدونه على وسائل الإعلام. نحن نحاول أن نظهر السوريين من منظور إيجابي، لنؤكد على أنهم شعب ذكي، يمتلك المواهب، وقادر على المساهمة في المجتمع بأشكال وأساليب عدة".

وبالعودة إلى هاني جسري في لندن، فقد أصبح مثالاً حياً على ما يمكن للشباب السوريين إنجازه عندما تمنح لهم الفرصة. فبدعم من منحة دراسية من مؤسسة سعيد الخيرية، ومركزها لندن، تمكن جسري من متابعة دراسته العليا والحصول على شهادة ماجستير في السياسة العامة من جامعة أكسفورد في عام 2016. ومنذ ذلك الحين أكمل وظيفة لمدة شهرين مع وزارة التنمية الدولية في بريطانيا، حيث شارك في المهام المرتبطة بالمجتمع المدني السوري وفي دراسة تبحث في كيفية مساهمة المنظمات غير الحكومية بشكل أفضل في حشد الرأي حول السياسات.

ويقول جسري أن الفضل في حصوله على فرصة للدراسة في أكسفورد والتدريب في وزارة التنمية يعود للخبرة التي اكتسبها من عمله مع الأطفال من خلال "جسور". والآن، وبعد انضمامه إلى أسرة "جسور" فهو مثل بقية الأعضاء يقضي وقته بين حياته المهنية والعمل من دون مقابل للمنظمة الخيرية التي غيرت حياته كلياً. ويأمل جسري أن تسمح له الظروف يوماً ما بأن يساهم بما تعلمه في صنع السياسات التربوية في سوريا. وعلى الرغم من أنه مصنف كلاجئ اليوم، ولا يمكنه العودة إلى بلده، إلا أنه يتطلع للمشاركة في إعادة بناء ما تبقى من وطنه في المستقبل.

ويختتم جسري بقوله: "على الرغم من عدم قدرتي على أن أكون الآن في سوريا، كل ما فعلته، وكل ما أفعله، هو بهدف عودتي هناك. وحتى ذلك الوقت، فهناك اليوم ملايين السوريين حول العالم بحاجة إلى الدعم. وهذا ما تفعله "جسور"، فهي تتيح لنا فرصة مساعدة من هم بحاجة إلى المساعدة". — PA