الخروج عن السائد

حلقةٌ صغيرة من الأسر السعودية، يقودها رائدا العطاء المخضرمَان، خالد وألفت الجفالي، تعمل على صياغة نموذج جديد للعطاء في منطقة الخليج.

"لم يكن أحد بيننا يرغب في أن نعيد اختراع العجلة، بل أن نبدأ حيث انتهى الآخرون"، هذا ما يقوله خالد الجفالي، أحد رواد العطاء السعوديين والرئيس التنفيذي لتكتل شركات إبراهيم الجفالي وإخوانه الذي تملكه أسرته، عندما يتحدث عن بحثه في أفضل سبل العطاء. ويضيف الجفالي، قائلاً: "كما أنني شخصياً، لطالما شعرتُ أن التعاون الوثيق مع الأشخاص المناسبين يؤدي إلى نتائج أفضل من أن تعمل لوحدك. وهذه المرة أيضاً، ثبتت صحة اعتقادي".

من هذا المنطلق، قام الجفالي مع زوجته، ألفت، وبدعم من بعض أصدقائه المقربين، بإنشاء صندوق الشفاء الخيري في المملكة العربية السعودية في عام 2013. يتعاون هذا الصندوق بشكلٍ وثيق مع مؤسسة بيل ومليندا غيتس، بهدف توجيه المنح المالية نحو القضايا الصحية العالمية الملحة، بهدف إحداث أكبر تأثير فيها على المدى الطويل. وتوضح ألفت الجفالي، قائلة: "العطاء بحد ذاته أمر سهل، لكن العطاء الحسن هو فنٌ وموهبة".

خلال فترة لا تتجاوز الأربع السنوات، كان صندوق شفاء الخيري قد استثمر النفوذ المالي الذي يتمتع به أعضاؤه، فضلاً عن خبرة مؤسسة غيتس، ليقدم مُنحاً تفوق قيمتها التسعة ملايين دولار، مساهمة منه في تمويل الحرب على مجموعة من الأمراض تشمل شلل الأطفال، والملاريا، والتهاب السحايا.

وبعد أن استنفذت الشريحة الأولى من التمويل، بدأ العمل هذه السنة على تنظيم جولة ثانية من جمع التبرعات، على أمل أن تحقق هدفها في جمع 20 مليون دولار. تقول ألفت: "كثير من الأشخاص في سننا يودون أن يقدموا الهبات، لكنهم لا يعرفون كيف أو إلى أين يوجهون أموالهم. لقد أعجبوا بقصة شفاء ونشأتها، وهم معجبون بما نفعله ويرغبون بدعمنا، وعلى غرارنا، يودون أن يكتشفوا الطريقة الأمثل للعطاء".

ما يسمى بحلقات العطاء ليست بتوجهٍ جديد، فقد نشأت الفكرة في الولايات المتحدة، وهي منتشرة في مختلف أنحاء العالم. يتراوح حجمها من النوادي الاجتماعية المحلية، إلى المنظمات غير الربحية الكبيرة ذات الرسوم السنوية والشروط الدنيا لتقديم التبرعات. يجتمع في هذه الحلقات المانحون، ليتبادلوا الأفكار والاستراتيجيات، ويختاروا المنظمات غير الربحية التي يودون دعمها. أما في منطقة مجلس التعاون الخليجي، حيث ما زالت المؤسسات الفردية الخاصة والتي تفتقر عادة إلى الشفافية تهيمن على عمل الخير، يمثل صندوق شفاء الخيري توجهاً مبتكراً.

ولدت الفكرة لدى ألفت عندما لفت نظرها أحدهم إلى مفهوم حلقات العطاء، وكانت آنذاك تفكر بإطلاق جمعيتها الخيرية الخاصة في مجال الصحة والتعليم. فقد اقترح عليها أحد المستشارين أن توجه تمويلها نحو مؤسسة غيتس، كونها أكبر جمعية خيرية في العالم، كي يتم إنفاقه من خلال برامجها وشركائها.

وأدت الفكرة بالنهاية إلى حفل عشاء مع بيل غيتس وعدد من الأصدقاء أقامه آل الجفالي في المملكة، وأثمر الاجتماع عن تقديم مجموعة من التعهدات بالهبات، ووضع أسس صندوق الشفاء الخيري. وتقول ألفت: "اتخذنا قرارنا في ذلك اليوم بوضع يدنا بيد مؤسسة غيتس، والسير على هذا الدرب معاً. وقد كانت النتيجة رائعة".

"يمكننا أن نلمس مباشرةً الأثر الذي تحدثه تبرعاتنا، وهذا يشكّل خير حافز لنا للاستمرار، فنحن نشهد كيف تُبعث الحياة في عملنا الإنساني".

خالد الجفالي، المؤسس المشارك لصندوق الشفاء.

ما تلا ذلك كان أشبه بدورة مكثفة في الأعمال الخيرية الاستراتيجية: أي العطاء ذي الطموحات الكبيرة والهدف الواضح، والذي يعطي منافع جمة مقابل كل دولار ينفقه المانحون. وهذا أمر غير مألوف لدى كبار المحسنين هنا الذين يجاهد معظمهم لتعلم أصول العطاء، واستخلاص الدروس من استثمارات لا تحقق أهدافها بالشكل المطلوب، فضلاً عن الخسائر التي تنتج عنها. أما أعضاء صندوق "شفاء"، فقد تخطوا بسرعة مرحلة التعلم بفضل رحلاتهم الميدانية وتفاعلهم مع خبراء عالميين في مجال الصحة.

واليوم، من خلال التبرعات المشتركة التي يتم جمعها، توجه هذه المجموعة المؤلفة من 19 شخصاً المنح لتسريع عملية تنفيذ مشاريع الرعاية الصحية التي تختارها بدقة مؤسسة غيتس. يتمثل الشعار غير المعلن لغالبية هذه المشاريع في التعويض على فشل سوق الرعاية الصحية في دعم المستهلكين الفقراء، من خلال إنفاق المال بالنيابة عنهم لتمكينهم من الحصول على الأدوية والعلاج. إذا ما سارت الخطة كما هو متوقع، فإنها ستحسن، كما تأمل أسرة الجفالي، حياة ملايين الأشخاص في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا.

يقول خالد: "مسيرتنا هذه فتحت أعيننا على الكثير من المشاكل. وكنا كلما اكتشفنا المزيد من المعاناة - وطرق التعامل معها - خاصةً خلال الرحلات الميدانية، زدنا رغبةً في تقديم المزيد من المساعدة". ويذكر خالد مشاهدته لأطفال خارج مستوصف مجاني في تنزانيا، وهم ينتظرون في صف واحد بهدوء وصبر تحت أشعة الشمس الحارقة، للحصول على اللقاحات التي لا تستطيع أسرهم تحمل تكلفتها. ويضيف: "يمكننا أن نلمس مباشرةً الأثر الذي تحدثه تبرعاتنا، وهذا يشكل خير حافز لنا للاستمرار، فنحن نشهد كيف تُبعث الحياة في عملنا الإنساني".

image title
قدّم صندوق الشفاء نحو 9 ملايين دولار لمكافحة أمراض مثل شلل الأطفال والملاريا. وتعد الناموسيات طريقة مهمة للوقاية من الأمراض التي ينقلها البعوض.

قدم صندوق الشفاء العديد من الهبات، شملت مبلغ 3.3 مليون دولار للمساهمة في الحملة العالمية لمكافحة شلل الأطفال، و2.5 مليون دولار لمحاربة التهاب السحايا الذي كان متفشياً بشكل واسع في أفريقيا قبل توفر اللقاحات متدنية التكلفة في العام 2011؛ كما استثمر الصندوق 2.4 مليون دولار للتصدي للأمراض المدارية المهملة. استفاد من هذه الهبات حوالي 16 مليون شخص في 15 دولة ــ وهو "عدد هائل" كما تقول ألفت ــ يتوزعون بين جمهورية أفريقيا الوسطى والسودان، فضلاً عن بعض الدول العربية مثل لبنان والعراق واليمن.

في عام 2014، قدم الصندوق أول منحة إلى مشروع داخل المملكة العربية السعودية، كانت قيمتها 1.2 مليون دولار لتحسين مستوى تشخيص داء الليشمانيا وعلاجه. والليشمانيا مرض جلدي طفيلي ينقله ذباب الرمل، ومع أنه غير قاتل إلا أن ما يخلفه من تشوهات وندوب يمكن أن تحيل حياة المريض إلى تعاسة وبؤس. تنتشر هذه الآفة في منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ خاص، حيث يصاب بها الآلاف كل سنة، لكنها نادراً ما تلقى دعماً من المانحين.

والمنحة التي قدمها صندوق الشفاء - لتمويل أبحاث الليشمانيا في كلية الطب المداري في ليفربول عززت الاستجابة لهذا المرض. والهدف النهائي للمنحة هو القضاء على داء الليشمانيا نهائياً في المملكة. وبعد ذلك، سيكون بالإمكان استخدام الأدوات التي تم تطويرها لمكافحة هذا المرض في مناطق أخرى، حيث سرّعت النزاعات وموجات النزوح الجماعي من انتشاره.

وتعلق ألفت، قائلة: "سيكون من الرائع أن نتمكن من القضاء على داء الليشمانيا هنا. فهذا يعني أننا حقاً نوظف أموالنا لتحقيق أكبر تأثير ممكن".

يعتبر صندوق الشفاء في دول مجلس التعاون الخليجي ظاهرة فريدة من نوعها، كطائر يغرد خارج السرب. فهو يجمع بين قيم العطاء والكرم الإسلامي والخبرات الخارجية، مشجعاً على أعمال الخير الاستراتيجية الاستباقية ــ لا الاندفاعية العفوية. أما الأعضاء، فيعتبرون أنفسهم، بحكم عملهم الجماعي، في عملية تعلم مستمر. مع ذلك، وفي خضم كل أساليب العطاء وتلك التي يتوخى أصحابها من خلالها إعلاء مكانتهم في المجتمع، ليس من السهل إقناع المحسنين بالمنهجية الجديدة.

يعلق خالد على ذلك، قائلاً: "في هذه المنطقة من العالم، يود كل شخص أن يطلق مبادرته الخاصة، كإنشاء مؤسسة خيرية أو منظمة غير ربحية، ليخلد اسمه في عمل ما. أما صندوق الشفاء، فهو يحدث تغيراً في منهجية العطاء. ونحن كرواد عطاء فرديين يجب أن يتصف عملنا بالرشاقة".

image title image title
يقوم أعضاء صندوق الشفاء برحلات ميدانية منتظمة للحصول على فهم أفضل لتأثير تبرعاتهم على مشاكل الصحة العامة. الصورة: تم تزويدها.

لكن هذه المنهجية الجديدة تطرح أيضاً فكرة مراجعة مفهوم كتمان الصدقة الذي أوصى به الدين الإسلامي، مثل الحديث الشريف: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، فتشجيع الآخرين على فعل الخير الجماعي يتطلب الإشهار. ويضيف خالد: "يعتبر التصدق بالمال مسألةً شخصية، مما يصعب عملية تبادل الأفكار والتنسيق".

على صعيد نشر الفكرة، أخذت أسرة الجفالي زمام المبادرة، فطرحت فكرة إنشاء الصندوق على شبكة معارفها المؤثرين، حيث أقامت الولائم، ومن ثم بدأت "تمطر الأصدقاء بكل لباقة" بأدلة ملموسة عن تأثيره الكبير. كما كان لاسم مؤسسة غيتس جاذبيته أيضاً، فقد ساعد في تبديد كل الشكوك المتعلقة بكيفية إنفاق المنظمات غير الحكومية العالمية للأموال. وعليه، تتطلع كلتا الجهتين إلى استنساخ نموذج التعاون نفسه في أماكن أخرى في دول مجلس التعاون الخليجي، وتوسيع قاعدة المانحين في صفوف الجيل القادم.

تقول ألفت: "نأخذ أولادنا معنا في رحلاتنا الميدانية. من الضروري جداً لنا أن نورثهم الشعور بأهمية ما نفعله. إنها مسيرة تثقيفية لكامل للأسرة". ومن المنافع الإضافية، وفق ألفت، أن نموذج صندوق الشفاء يخلف صدىً طيباً لدى جيل الشباب المتعطشين للبيانات، فتقول: "هناك تغيير حقيقي يحدث لدى الجيل الأصغر سناً الذي يهتم بالاطلاع على الأرقام والإحصاءات والتوزع الجغرافي، والتأكد من أن الأموال تُوظف كما هو محدد".

من الأمور الأخرى التي تبشر بالتغيير هو اهتمام حكومات الخليج المتزايد بالقطاع الخيري. ففي المملكة العربية السعودية مثلاً، وهي الدولة الأكثر ثراءً في هذه الكتلة التجارية، تسعى الخطة الاقتصادية الوطنية إلى أن يسهم القطاع غير الربحي بتوليد خمسة بالمئة من إجمالي الناتج المحلي بحلول العام 2030. وفي عصر يتراجع فيه الإنفاق العام، تتخذ أعمال الخير دوراً متعاظماً، قد يتطلب إجراء إعادة نظر جذرية في كيفية توزيع وتخصيص الأموال وتتبع أثرها.

تبذل أسرة الجفالي ما في وسعها للدفع بالتغيير المنشود من خلال توعية الأجيل القادمة. ففي العام 2014، استثمر الزوجان في برنامج خيري تجريبي في جامعة نورث إيسترن، في الولايات المتحدة، يمنح من خلاله الطلاب مبالغاً صغيرة إلى منظمات غير ربحية، لكي يتعرفوا على مصاعب صياغة وتمويل الاستراتيجيات اللازمة لإحداث تغيير اجتماعي حقيقي.

واليوم، تُدرس نسخة محلية من هذا المنهاج الدراسي في جامعة الأمير سلطان في الرياض، بالتنسيق مع أسرة الجفالي، لتعليم الطلاب السعوديين فن العمل الخيري الاستراتيجي. فإذا سار كل شيء كما هو مخطط له، تأمل الأسرة أن تتبنى جامعات أخرى في مختلف أنحاء المملكة هذا التوجه: أي دمج منهاج فن العطاء الفعال ضمن المقررات الدراسية الوطنية.

ويختتم خالد بالقول: "لا يميز عمل الخير بين عرق أو دين أو منطقة، فكلها تصب في خانة واحدة. هذا هو المستقبل: تعليم الشباب حول العالم أصول العطاء، وكيفية التنسيق والتعلم من بعضهم البعض". – PA