كسب الحرب

حملة عالمية انطلقت مؤخراً ضد الأمراض المدارية المهملة منذ مدة طويلة في بعض المجتمعات الأكثر فقراً في العالم بدأت تحرز تقدماً.

في شهر مارس الماضي، حققت أحدث دولة في العالم نصراً تاريخياً. فقد أعلنت جنوب السودان، التي أرهقتها الحرب الأهلية والمجاعة والنزوح، أنها أوقفت انتشار مرض الدودة الغينية داخل حدودها، مسجلة انتصاراً كبيراً في السباق الهادف إلى استئصال هذا المرض، ليكون الثاني بعد الجدري الذي يتم القضاء عليه نهائياً في جميع أنحاء العالم.

وفي هذا الإطار، صرح الدكتور ريك غاي كوك، وزير الصحة في البلاد، للصحفيين، قائلاً: "نحن اليوم سعداء جداً بهذا الإنجاز، خاصة أننا نعلم جيداً طبيعة هذا المرض وحجم المعاناة التي سببها. المهم الآن أن الأجيال القادمة لن تعرف عنه إلا في كتب التاريخ فقط".

مرض دودة غينيا، الذي يعرف أيضاً باسم داء التنينات، هو واحد من أصل 18 مرضاً موهناً أو منهكاً تُعرف مجتمعةً باسم "الأمراض المدارية المهملة" (NTD). وتصيب هذه المجموعة من الأمراض الملايين من أشد الناس فقراً في العالم بإعاقات مؤقتة أو دائمة مثل العمى والعجز والتشوه، وترميهم في مطب العوز والإقصاء الاجتماعي، كما أنها تستنزف مليارات الدولارات من اقتصادات البلدان النامية كل عام. وتنتشر هذه الأمراض في أكثر بقاع العالم تهميشاً، كالمناطق النائية والريفية ومناطق النزاع، حيث النظم الصحية ضعيفة. وعلى الرغم من إمكانية الوقاية والمعالجة لغالبيتها، إلا أنها لاتزال آفة تنهك المجتمعات.

وتعد الأمراض المدارية المهملة من أعراض وأسباب الفقر معاً. منها، على سبيل المثال، داء الفيلاريات اللمفي (lymphatic filariasis)، المعروف بداء الفيل، الذي يسببه طفيلي ينتقل من إنسان إلى آخر عن طريق لسعة بعوضة. يغزو هذا الطفيلي الجهاز اللمفاوي للجسم المضيف، وينمو ليصبح دودة راشدة. وتؤدي العدوى إلى تورم ضخم وانسداد وحمى شديدة، ما يترك المصابين يعانون من آلام شديدة تمنعهم من ممارسة العمل أو الذهاب إلى المدرسة، فضلاً عن تشوهات جسدية، وغالباً ما يتم تجنبهم من قبل مجتمعاتهم.

أما دودة غينيا فتنتقل عن طريق شرب المياه الملوثة بالبراغيث التي تحمل يرقات الدودة. وتنمو اليرقة داخل الجسم المصاب إلى ما لا يقل عن متر، قبل أن تندفع للخروج عن طريق الجلد على مدى عدة أسابيع. ولا يوجد حالياً علاج للمرض، إلا أنه يمكن تسريع إخراج الدودة الناشئة من الجسم باستخدام عصا خشبية صغيرة توضع مكان الإصابة لتلتف حولها الدودة، مما يسهل سحبها والقضاء عليها.

تصيب هذه الأمراض الفقراء منذ العصور القديمة، ولكن مدّها قد بدأ بالانحسار. فعلى مدى عدة عقود، يعمل تجمع عالمي بهدوء من أجل تسريع القضاء على الأمراض المدارية المهملة، ما أدى إلى الحد من انتقال العدوى ودفع معدلاتها إلى مستويات منخفضة جديدة. وقد توسعت عمليات التحالف ضد الأمراض المهملة بفضل التمويل الجيد والتبرع بالأدوية والإرادة السياسية، فضلاً عن الدعم الذي يقدمه جيش من العاملين الصحيين في الخطوط الأمامية، لتصبح حملة القضاء على تلك الأمراض إحدى أنجح مبادرات الصحة العامة في التاريخ.

image title image title

وقد تم إنجاز الكثير منذ اجتماع لندن الذي عُقد قبل خمس سنوات والذي تعهد فيه خبراء الصحة والتنمية والجهات المانحة والجمعيات الخيرية وشركات الأدوية، بالعمل معاً للسيطرة والقضاء على عشرة أمراض مدارية مهملة بحلول عام 2020. فقد انخفض عدد الأشخاص المصابين بهذه الأمراض إلى 1.5 مليار شخص، بعد أن كانوا حوالي ملياري شخص عام 2011.

وقد استطاعت خمس دول القضاء على مرض التراخوما، وهو السبب الرئيسي للإصابة بالعمى فيها. كما تخلصت غالبية دول أميركا اللاتينية من العمى النهري، في حين أصبحت مصر في مارس الماضي أحدث دولة تخلو من داء الفيلاريات اللمفي.

من جهة أخرى، ساعدت عمليات تحسين أنظمة الصحة العامة ورصد الأمراض العاملين في مجال الصحة على الوصول إلى المرضى في أكثر من 130 دولة، ما ساهم بنهاية عام 2016 في تزويد أكثر من مليار شخص بجرعات للوقاية من العدوى بمرض النوم والجذام وغيرهما من الأمراض.

image title

وقد كان العمل الخيري المحرك الرئيسي لهذا النجاح، إذ قاد مركز كارتر، وهو مؤسسة أنشأها الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر عام 1982، الجهود العالمية للقضاء على مرض دودة غينيا. وعندما بدأت المؤسسة حملتها عام 1986، كان عدد الإصابات حول العالم يقدّر بنحو 3.5 مليون حالة سنوياً. فيما تم الابلاغ خلال العام الماضي عن 30 حالة فقط، في كل من تشاد وإثيوبيا.

كما استثمرت مؤسسة بيل وميليندا غيتس ملايين الدولارات لتمويل الأدوية وأدوات التشخيص، ولتشديد عمليات رصد الأوبئة، ومكافحة ناقلات الأمراض ــ ما يشمل كبح الحشرات والديدان التي تنشر الأمراض المدارية المهملة. وقدم العديد من المانحين الآخرين دعماً سخياً ــ كان من ضمنهم ولي عهد أبوظبي، الذي أعلن العام الماضي عن رصد مبلغ 100 مليون دولار ضمن صندوق يهدف إلى القضاء على مرض عمى الأنهار وداء الفيلاريات اللمفي ــ إلى جانب أدوية بقيمة 17 مليار دولار تبرع بها "شركاء الصناعة"، أي الشركات المهتمة بالقضاء على الأمراض المدارية المهملة.

لكن الميل الأخير من رحلة القضاء على الأمراض المدارية المهملة سيكون الأصعب. فمع تراجع انتشار تلك الأمراض، يمكن للزخم السياسي والتمويل أن يتراجعا بشكل أسرع. وستركز الخطوات النهائية على التعامل مع آخر جيوب هذه الأمراض، وإيجاد أدوات جديدة للتشخيص والعلاج ودعم عمليات رصدها. ويتطلب ذلك جهداً مضنياً ودعماً من كافة الشركاء من أجل القضاء المبرم على الأمراض المدارية المهملة، وهو هدف سيكون للمرة الأولى في متناول الإنسانية. — PA