النهوض من الرماد

أذكياء، مندفعون وطموحون لحياة أفضل. هذه صفات يتحلى بها العديد من أطفال وشباب فلسطين الذين يمثلون مستقبل بلدهم المثقل بالهموم ومصاعب الحياة. يحدثنا اليوم، في ذكرى مرور 50 عاماً على الاحتلال، البعض من هؤلاء الذين يأملون في كتابة قصة جديدة للأجيال القادمة.

نصف قرن من الزمن قد مضى، كانت أسوأ فتراته حرباً عاتية وأفضلها ما يمكن وصفه بحالة من "شبه السلام". كانت البداية في 5 يونيو عام 1967، عندما اجتاح الجيش الإسرائيلي الجزء الشرقي من مدينة القدس ومناطق أخرى واسعة من الأراضي الفلسطينية. وعلى الرغم من أن "حرب الأيام الستة" هذه لم تكن الأولى في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إلا أنها وضعت الضفة الغربية وقطاع غزة تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، وبهذا حددت مشهد الأزمة الفلسطينية من صراعات واضطرابات ونزوح لمدة الخمسين عاماً التي تلت، وكرست أطول احتلال عسكري في تاريخ العالم الحديث.

وبعد انقضاء ما يقارب السبعة عقود منذ اندلاع أول حرب بين إسرائيل والعرب، ما يزال المستقبل حالكاً، خاصة بالنسبة للنازحين واللاجئين الفلسطينيين في دول المنطقة. ووفق إحصاءات منظمة الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى) المعنية بتخفيف معاناتهم، فإن أعداد الفلسطينيين المسجلين تحت رعايتها قد تضاعفت بشكل كبير، من 750,000 لاجئ عام 1948 إلى نحو خمسة ملايين اليوم، وهو ما يشمل أربعة أجيال من الفلسطينيين. ونحو 40 بالمئة من هؤلاء هم نازحون يعيشون في قطاع غزة والضفة الغربية، و40 بالمئة آخرون في الأردن، أما الباقي فهم لاجئون في سوريا ولبنان. وبعد عقود أمضوها في المنفى، ما يزال اللاجئون الفلسطينيون يعانون من عدم امتلاكهم لوثائق الجنسية الضرورية. 

وتتباين التحديات التي تواجههم وفقاً للبلد الذي لجؤوا إليه. ففي لبنان، حيث نسبة اللاجئين الفلسطينيين بالنسبة لعدد السكان هي الأكبر، هناك عقبات قانونية تتفاوت من قيود على تملك العقارات إلى حرمان من مزاولة 36 مهنة في سوق العمل، ما ساهم في جعل 65 بالمئة من الـ 450,000 لاجئ فلسطيني في لبنان يرزحون تحت وطأة الفقر، إذ لا يتعدى مدخول الواحد منهم ما معدله 195 دولاراً في الشهر - أي أقل من نصف معدل الدخل للعامل اللبناني، وفقاً لبيانات الأونروا.

ولا شك أن الوضع الأمني في سوريا شكل مخاطر إضافيةً للأسر الفلسطينية هناك. فبعد اندلاع الحرب فيها، أصبح حوالي 460,000 لاجئ فلسطيني في سوريا بحاجة لمساعدات الإغاثة، فضلاً عن 42,000 آخرين باتوا يعانون من تجربة الهجرة واللجوء مرتين بعد أن هربوا إلى لبنان الذي ضاقت فيه الحياة مع تضخم أعداد اللاجئين هناك. كما لجأ 16,000 لاجئ فلسطيني آخر من سوريا إلى الأردن. 

وعلّق بيير كراهينبول، المفوض العام للأونروا، على وضع هؤلاء، قائلاً: "إنهم يمثلون جيلاً آخر من الفلسطينيين الذين يعانون من فقدان الهوية والمعيشة والسكن. إن مستوى الإحباط واليأس لديهم قد بلغ القعر".

image title
خمسون عاماً من الصراع في فلسطين أسفرت عن الكثير من النزوح والمشقات. الصورة: الأونروا.
image title

في هذه الأثناء، يعيش مليونا شخص في غزة في ظل حصار بري وبحري وجوي فرضته إسرائيل بعد أن استلمت حركة حماس زمام الأمور في القطاع في العام 2007. وقد أدى الحصار الاقتصادي إلى خفض الناتج القومي المحلي في غزة إلى النصف، وفق مصادر البنك الدولي، ما رفع عدد الأفراد الذين أصبحوا بحاجة للمساعدات الغذائية في القطاع من 80,000 في عام 2000 إلى ما يقارب المليون شخص اليوم. 

ويقول كراهينبول: "يؤلمني أن أصغي إلى الناس وهم يشكرونني على المساعدات الغذائية التي توفرها الأونروا. فأحدهم ربما كان منذ بضعة سنوات خلت موظفاً في شركة، أو يدير عملاً تجارياً لحسابه الخاص. أما اليوم، فالسوق التجارية قد اختفت بسبب الحصار، وتغيرت معظم الظروف المساعدة على خلق الوظائف أو استمرارها". 

ويضيف كراهينبول بأن البطالة متفشية بشكل واسع، إذ تطال نحو 44 بالمئة من الـ 1.2 مليون لاجئ في غزة، وترتفع نسبتها إلى 67 بالمئة بين فئات الشباب، وهي نسبة من المرجح أن تكون "رقماً قياسياً عالمياً" في بطالة الشباب. وغالباً ما يكون العمل غير مستقر بالنسبة للمجتمعات الفلسطينية في مختلف أنحاء المنطقة. فمعدل البطالة بينهم يصل إلى 23 بالمئة في لبنان، بينما يتقاضى اللاجئ الفلسطيني نحو 1.80 دولار على ساعة العمل في المناطق الحضرية في الأردن، حسب ما تشير دراسة تم إعدادها في عام 2013. 

لكن كراهينبول يؤكد على أن الثمن الأكبر الذي يدفعه الفلسطينيون يتعدى هذه المؤشرات ليهدد مستقبلهم. فيوضح بأن الجيل الأول من اللاجئين الفلسطينيين واجه الآثار المباشرة للصدمة النفسية التي ترتبت على النزوح، لكنهم كانوا يأملون بحل للأزمة؛ أما أجيال الشباب فقد وجدت نفسها تحاول تدارك الخلافات الداخلية والانشقاقات المتزايدة، في ظل عملية سلام بقيت متعثرة على مدى عقود، فضلاً عن اندلاع حروب ونزاعات مسلحة دائمة التغير في منطقة الشرق الأوسط تطغى على القضية الفلسطينية وتأخذ مركز الصدارة في الأجندة السياسية العالمية.

ويضيف كراهينبول: "يواجه الشباب اليوم مجموعة متداخلة من الضغوطات وأفقاً سياسياً مغلقاً. عندما أتجول في إحدى مدارس الأونروا، ينتابني القلق من أن يتصورنا التلاميذ مستقبلهم الوحيد، وهذا ليس بالأمر المستحب بالنسبة لأي طرف". 

وفي غياب مؤشرات لأي حل سياسي شامل في الأفق، تتمثل الأولوية والتحدي الأكثر إلحاحاً الآن في إيجاد وظائف للشباب الفلسطيني. فتوافر شباب فلسطينيين متعلمين ومثقفين هو التحدي الأكبر مثلما هو الثروة والمكسب الأكبر. ومن المؤشرات التي تبشر بمستقبل مشرق هي أن أعداد الطلاب الملتحقين بمؤسسات التعليم العالي قد قفزت بنسبة 940 بالمئة خلال الفترة الممتدة بين عامي 1993 و 2011، وذلك وفق مصادر الأمم المتحدة.

من جهتها، تشغّل الأونروا وتدير مدارس عديدة تتسع لأكثر من نصف مليون طالب. ويبدو أن صعوبة الحياة قد قد زادت هؤلاء الأطفال شعوراً بالمسؤولية والرغبة بمساعدة الغير. ويذكر كراهينبول كيف كان يعمل مجلس الطلبة في مدينة حلب على تحديد من يتسرب أو ينقطع عن الدراسة من زملائهم بسبب المشاكل النفسية وعقبات أخرى، ثم يجلسون معهم لتقديم الدعم المعنوي وتشجيعهم المتسربين على العودة إلى مقاعد الدراسة. ويضيف قائلاً: "كان لدى هؤلاء الشباب الصغار حسّاً قوياً بالمشاركة بمجتمعهم، وهذا جانب لا يوليه العالم حقه من التقدير". 

لكن على صعيد آخر، يفيد كراهينبول بأن هناك حلقة مفقودة في عملية تنمية جيل الشباب الفلسطيني تتعلق بنقلهم من المرحلة المدرسية إلى ميدان العمل أو التدريب، أو متابعة الدراسات الأعلى. وحسب ما يقول، فإن التعامل مع هذه المسألة يتطلب عدة أمور، منها أن تسعى الجهات العاملة في مجال التنمية والتطوير إلى التشاور والعمل الحثيث مع كل من القطاع الخاص والجهات الحكومية. وقد لقت هذه الخطوة صدى في الأردن بشكل خاص، حيث تجد "نسبة عالية" من طلاب مراكز الأونروا للتدريب المهني وظائف في سوق العمل.

وعلى الرغم من شتى التحديات التي تواجهه، يبقى كراهينبول محافظاً على نظرته الإيجابية للمستقبل. وقد أفاد في مقابلة صحفية أجريت معه مؤخراً بأن آخر ما قد يحتاجه الفلسطينيون هو أن يكون للأونروا مفوض عام يفتقد الأمل والتفاؤل.

ويقول: "في مناطق النزاعات غالباً ما تغيب عن ذاكرة الإنسان إنسانية المجتمعات [المستهدفة للمساعدة]. أنا ألمس مستوى عالٍ من التفاؤل لدى هؤلاء الطلبة؛ إنهم شجعان ومفعمون بالحياة والطاقة، وهم منخرطون في تحصيلهم العلمي بشكل تام. وأنا مصمم على متابعة الاستثمار بهم".

في الصفحات التالية نتحدث مع أفراد ومؤسسات اتخذت موقفاً مماثلاً من جهة الاستثمار في الأجيال الجديدة من أطفال وشباب فلسطين.

التعليم في المقام الأول

ملك النمر – مؤسسة جمعية توحيد شبيبة لبنان.


مع خبرة عشرين عاماً من العمل في مخيمات اللاجئين في لبنان، تعلم ملك النمر جيداً لماذا يرتبط مستقبل الأطفال الفلسطينيين بالتعليم. فالمسألة لا تتعلق في ضمان التحاق كل الأطفال وصغار الشباب بالمدارس، أو على الأقل متابعة فصول دراسية عبر الإنترنت، بل في إطلاقهم بنجاح في سوق العمل.

وتوضح قائلة: "هناك لاجئون فلسطينيون يحملون شهادات جامعية لكنهم لا يجدون عملاً، وهناك أطباء يعملون سائقين لسيارات الأجرة". وتضيف: "هذا شيء لا يُحتمل ولا يجب أن يحصل أساساً". 

أسست النمر جمعية توحيد شبيبة لبنان (Unite Lebanon Youth Project) غير الربحية منذ سبع سنوات بهدف تشجيع جيل الشباب بكل فئاته وطوائفه في لبنان على تخطي الفروقات، ومساعدتهم على متابعة تحصيلهم العلمي من خلال عدة برامج. 

ويركز برنامج "Bridge" تحديداً على مساعدة الشباب الفلسطيني في المخيمات أو المسجلين في مدارس الأونروا على إيجاد التمويل اللازم للانتساب إلى أفضل الجامعات مثل الجامعة الأميركية في بيروت أو كلية لندن الجامعية، ما يزيد بشكل كبير من فرصهم في الحصول على وظائف جيدة بعد تخرجهم. 

وتقول النمر أن الجمعية ساعدت لغاية اليوم نحو 660 طالباً، وأن نحو 80 بالمئة من طلابها للعام الدراسي 2013 ـ 2014- وحوالي 60 بالمئة من طلاب العام 2014 - 2015 قد حصلوا على وظائف أو يتابعون دراساتهم العليا. وتضيف باعتزاز بأن أحد طلابها المنتسبين لكلية "يو دبليو سي أتلاتنيك" في الولايات المتحدة سيلتحق ببرنامج دراسي صيفي في جامعة ييل، وهي من أرقى الجامعات في العالم. 

لكن المصاعب تبدو وكأنها لا تنتهي حتى بالنسبة لحملة الشهادات المميزة من اللاجئين. "فإحدى أكبر العقبات التي تواجههم هي تأشيرة العمل،" كما توضح النمر، وتضيف بأنها تأمل بأن لا يعود العديد من الخريجين إلى لبنان؛ "وإلى ماذا يعودون؟ فهذه الفئة من المجتمع عانت من الحروب وتستمر عالقة في دوامة الحياة الصعبة في مخيم اللاجئين التي تكاد تخلو من فرص العمل'.

وتوضح قائلة: "أنا أدرك أن ما نفعله هو الصواب، وهو يؤدي إلى النتيجة المطلوبة، كما أن لدي العديد من قصص النجاح التي تثبت صحة ما أقوله". 

وتقول النمر بأن وضع اللاجئين السوريين في تركيا يؤكد على ما يمكن إنجازه في مثل هذه الحالات عندما تتوحد الإرادات، مضيفة بأن الحكومة التركية سمحت للاجئين بالعمل، فضلاً عن أنها أذنت لهم بأن ينتسبوا إلى المدارس الحكومية والجامعات.

وتختتم بقولها: "عندما يحصل مهندس [فلسطيني] على وظيفة جيدة في دول الخليج، فلا تتوقع أن يعود يوماً إلى الحياة في مخيم اللاجئين. إنني أرى التعليم طريقاً مختصراً وإن كان طويل الأمد إلى حياة أفضل".

"كنت من بين الذين تلقوا المعونات، لكننا الآن في غنى عنها".

شاكر خزعل، كاتب وناشط.

ربط أفضل وتواصل أقوى

شاكر خزعل – كاتب وناشط.


تتصف حياة اللاجئين بنوع من جمال فطري أو نزعة أصيلة في طبيعة البشر، إذ تتجلى فيها إرادة الحياة، ليس فقط العزيمة القوية على البقاء، بل تحقيق نوع من الازدهار والسعادة في نفس الوقت. لكن هذه الإرادة تنحسر شيئاً فشيئاً وجيلاً بعد جيل مع استمرار انعدام الحلول لأوضاع اللاجئين، وتراجع معنوياتهم. هذا ما يراه شاكر خزعل، وهو كاتب كندي من أصل فلسطيني، لكنه يضيف بأن الجيل الحالي من الفلسطينيين يمتلكون أداة جديدة مهمة، وهي التواصل.

فيقول خزعل، الذي يبلغ الـ 29 من العمر، وهو كاتب ومناصر لقضايا اللاجئين: "يمكن لجيل الشباب اليوم، على سبيل المثال، أن ينقلوا إلى العالم صوراً حية عن الحياة اليومية للاجئين من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية. فإيصال صور عن واقع الحال إلى جمهور أكبر هو الخطوة الأولى لتحقيق النتائج وإحداث التغيير".

وخزعل هو من الجيل الثالث من اللاجئين الفلسطينيين، وقد نشأ في مخيم برج البراجنة في لبنان قبل أن يحصل على منحة للدراسة في جامعة يورك في تورونتو في كندا. وهو يحاول من خلال رواياته أن يرسم الوجه الإنساني والعاطفي لمفهوم اللاجئ. 

ويقول خزعل أنه عندما تكتسب كلمة لاجئ صوتاً يمكن للاجئين الشباب أن يرفعوا مستوى الوعي على نطاق واسع، وأن يحشدوا الرأي لقضاياهم المباشرة، وأهمها الحصول على وظائف. وفي لبنان تحديداً، يحتاج الفلسطينيون إلى من يتحدث بلسانهم بطلاقة ومهارة للحث على تغيير السياسات التي تحجب فئات عديدة من الوظائف عنهم.

من ناحية أخرى، يوفر عصر الإنترنت وشبكات التواصل فرصاً جديدة للعمل. وكما يقول خزعل، فالتوجه في سوق العمل نحو العقود القصيرة الأجل والعمل الحر بأجور عوضاً عن وظائف برواتب ثابتة (gig economy) يمكن استغلاله لتوظيف اللاجئين عن بُعد في أعمال لا تتطلب التواجد في مكاتب رب العمل، مثل أعمال الترميز في تطوير البرمجيات ومواقع الإنترنت. وبالنتيجة، فإن خلق فرص عمل حقيقية يساعد اللاجئين على التحول من تلقي المساعدات إلى الاعتماد على الذات والاستقلالية المادية. 

ويؤكد خزعل، قائلاً: "كنت من بين الذين تلقوا المعونات، لكننا الآن في غنى عنها. الجميع يتحدث عن أثر الإنترنت في جعل عالمنا صغيراً ومترابطاً ومنفتحاً على بعضه في مختلف المجالات. فلم لا نطبق فعلاً هذه المفاهيم لدمج اللاجئين بالقوى العاملة العالمية؟" ويضيف بأن المسؤولية تقع على عاتق الحكومات، والقطاع الخاص، بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية. 

ويختتم قائلاً: "آمل أن نشهد خلال العشر سنوات القادمة مبادرات أكثر على صعيد خلق الوظائف. إنه واجبنا، سواء كنا لاجئين سابقين أو أفراداً يهتمون برفاههم، أن نعالج قضية إيجاد فرص العمل".

القوة في العدد

أنس حامد – مؤسس "كراود بال".


إن قصة معاناة الشعب الفلسطيني معروفة للجميع، وقد حان الوقت للتغيير، هذا ما يقوله أنس حامد، الذي غادر والده فلسطين في ستينات القرن الماضي.

ويقول حامد، الذي يعيش في تشيلي: "قبل عشر، أو ربما خمس، سنوات، كان فلسطينيو الشتات ما زالوا منشغلين بما آلت به الأمور من ظروف معاناة ويأس، ولم يكونوا مهيئين بعد لاتباع نهج الأمل. أما اليوم فأنا أرى نقلة نوعية في طريقة التفكير، وتغيراً إيجابياً في نظرتهم لوضعهم". 

يأمل حامد أن يكون جزءاً من هذا التغيير من خلال منصة التمويل الجماعي التي أطلقها على الإنترنت باسم "كراود بال" (CrowdPal)، والتي تهدف إلى توفير التمويل للفلسطينيين من رواد الأعمال الناشئة، لا سيما المشاريع التي تخلق فرص عمل داخل فلسطين، بالإضافة إلى المشاريع التي ينشئها فلسطينيو الشتات.

ويقول حامد بأنه يأمل أن تتمكن المنصة من توفير تمويل التأسيس بمعدل 250,000 دولار للمشروع الواحد لكي تساعد الشركات القادرة على إحداث أثر اقتصادي واجتماعي للفلسطينيين على الانطلاق. 

ولقاء أتعابها تأخذ "كراود بال" نسبة 5 بالمئة من إجمالي مبلغ التمويل و10 بالمئة كفائدة، بالإضافة إلى بعض الرسوم الإدارية. وترتبط الشركة بعلاقات مع حاضنات ومسرعات الأعمال في فلسطين وتشيلي ودول أخرى في أميركا اللاتينية، ما يساعدها في تحديد المشاريع والشركات الواعدة.

يُعد التدريب والإرشاد جزء من نموذج العمل الذي تعتمده "كراود بال". وهذا أمر ضروري لأن المنصة التي كان من المقرر إطلاقها في نوفمبر الماضي واجهت عقبة في البداية عندما وجدت عدداً قليلاً من رواد المشاريع في فلسطين في مستوى الجهوزية المطلوب لاستقبال التمويل.

ويأمل حامد بأن يساعد التدريب الذي توفره المنصة رواد الأعمال الفلسطينيين على التغلب على العقبة النفسية تجاه توسيع الأعمال الذي يعانون منه بسبب سنوات طويلة من الظروف العامة غير المشجعة والتي زادت من مخاوفهم. 

وقد قدمت بضعة شركات ناشئة طلبها للاستفادة من المنصة خلال الأسابيع الأولى على إطلاقها. وتهدف أول حملة نظمت عليها إلى جمع 300,000 دولار لصالح شركة "ريد كابيتال" التشيلية - الفلسطينية التي توفر القروض بين الأفراد. وتخطط "كراود بال" لإطلاق حملات تمويلية لما لا يقل عن أربع شركات ناشئة خلال سنتها التشغيلية الأولى. 

وتعتمد استراتيجية المنصة على الاستفادة من أموال الفلسطينيين في الشتات، بداية في تشيلي وانتقالاً إلى القارتين الأميركيتين والشرق الأوسط وأوروبا. ويعيش في التشيلي وحدها ما يقدر بنصف مليون شخص فلسطيني أو منحدر من أصول فلسطينية.

وأحد مؤسسي "كراود بال"، على سبيل المثال، هو تشيلي - فلسطيني من الجيل الثالث، ويعتمد على خبرته في مشاريع رأس المال المغامر للدفع بأعمال منصة "كراود بال".

ويوضح حامد قائلاً: "هناك نحو 70 مستثمراً أبدوا اهتمامهم بحملتنا الأولى. ونحن نعرف العديد من المستثمرين الفلسطينيين في الشتات، لذا فالمهمة لم تكن صعبة بالنسبة لنا". 

ويتطلع حامد بإيجابية عالية للأمور، فيقول: "آمل وأتوقع قيام المزيد من مثل هذه المبادرات التي من شأنها تغيير عقلية 'الضحية' السائدة لدى الفلسطينيين. فإن حققنا هذه النقلة الفكرية، يمكننا تغيير مقاربتنا حتى لعملية السلام".

"يوجد في فلسطين اليوم جيل من رواد الأعمال الشباب يتميزون بالجرأة والحماس وهم مستعدون لاستكشاف كل شيء بأنفسهم ومصممون أيضاً على تحدي الوضع القائم".

هاشم الشوّا، رئيس مجلس إدارة بنك فلسطين.

دور القطاع الخاص

هاشم الشوّا – رئيس مجلس إدارة بنك فلسطين.


تتطلب مسألة تحسين الفرص للشعب الفلسطيني تعاون جميع الأطراف دون استثناء، هذا ما يقوله كامل الحسيني، رئيس دائرة العلاقات الدولية وعلاقات المساهمين في بنك فلسطين.

ويوضح بأنه ما يزال هناك قطاع لم يضع ثقله في المسألة، إذ ما تزال ممارسات المسؤولية الاجتماعية (CSR) للعديد من الشركات الفلسطينية الكبيرة ضعيفة وتهدف في المقام الأول إلى خدمة العلاقات العامة والترويج للشركة.

ويضيف الحسيني، قائلاً: "إذا أجريت دراسة في فلسطين حول الشركات التي تتعامل مع موضوع المسؤولية الاجتماعية للشركات بطريقة جدية، فلن تجد أكثر من شركتين - أو ثلاث على أبعد تقدير - ينطبق عليها هذا الوصف".

ويعد بنك فلسطين، الذي أسسته عائلة الشوّا في العام 1960، إحدى أكبر المؤسسات المالية العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويدعم البنك مجموعة كبيرة من المبادرات يتم تمويلها من خلال استقطاع 6 بالمئة من الأرباح السنوية للبنك. فهو من قدماء المانحين لوكالة الأونروا، كما يقدم منحاً لمؤسسة "غزة سكاي غيكس"، أول حاضنة أعمال تقام في القطاع، ويمول التدريب في الخارج لموظفي الجامعات الفلسطينية، فضلاً عن تمويله المؤسسات الثقافية والفنية مثل معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى. 

ويبدو أن البنك لا يدخر مورداً إن كان قادراً على المساهمة به دعماً للمسؤولية الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، يكرس بعض موظفي البنك المختصين في تقنية المعلومات بعضاً من وقتهم ليقدموا إرشادات لرواد الأعمال الناشئة في "غزة سكاي غيكس"، كما يستخدم البنك شبكة العلاقات والمعارف الخاصة به لربط المانحين في الشتات مع وكالة الأونروا.

وفي العام الماضي وسع البنك أنشطته لتشمل الاستثمار المؤثر، فقد دخل في شراكة مع شركتين أخريين وبعض قادة الأعمال، شملوا سامر خوري وفادي غندور ليطلقوا "ابتكار"، وهو صندوق بقيمة 11 مليون دولار يقدم التمويل التأسيسي للشركات الناشئة في فلسطين. ويمثل الفلسطينيون نحو 80 بالمئة من مجمل المساهمين في الصندوق. 

من جهته، يوضح هاشم الشوّا، رئيس مجلس إدارة بنك فلسطين ومديره العام، قائلاً: "أردنا أن نسد ثغرة المرحلة المبكرة في التمويل بين الاستثمار الراعي (angel investment) ورأس المال المغامر لكي ننقل المشاريع الناشئة إلى المستوى التالي من التمويل". ويضيف: "هذا العمل يمثل التزامنا بدعم مستقبل فلسطين، فنحن نستثمر في شبابها ونقف معهم". 

وفي خطوة تدل على ارتفاع مستوى الثقة بالأثر الذي تحدثه "ابتكار"، ابتدأ التحضير لمرحلة ثانية من التمويل تهدف إلى إضافة 30 مليون دولار إلى الصندوق. ويؤكد الشوّا بأنه "يوجد في فلسطين اليوم جيل من رواد الأعمال الشباب يتميزون بالجرأة والحماس وهم مستعدون لاستكشاف كل شيء بأنفسهم ومصممون أيضاً على تحدي الوضع القائم".

وتتضمن المشاريع الأخرى التي يخطط البنك لرعايتها برنامج تدريب على الترميز في قطاع غزة بالتعاون مع الأونروا. وفي حال نجاح البرنامج يؤمل أن يتقدم مانحون لتوسيع نطاقه الجغرافي. 

ويعلق الحسيني قائلاً: "إذا كنا نود بالفعل التغلب على القيود الموضوعة براً وبحراً وجواً، فإن مستقبل غزة هو في الاقتصاد المبني على المعرفة. وهذا يتطلب تهيئة الطلاب من خلال تدريبهم على المهارات الشخصية ومهارات الترميز". 

ويرى الحسيني أنه مع كل هذا فالحاجة لعمل المزيد ما تزال كبيرة، وأنه لا بد من مشاركة المزيد من الشركات بهدف إقامة مشاريع تكمل بعضها، لا تتنافس مع بعضها البعض.

فيقول: "نحن بحاجة للابتكار والتنسيق مع بعضنا البعض، لكي لا يقتصر عملنا على بعث الأمل في الناس لأسابيع أو أشهر فقط. يجب أن يتسم عمل [القطاع الخاص] بالمزيد من الاستراتيجية وأن نحشد مواردنا سوية لخلق أثر أكبر".

ويؤكد الشوّا بأنه على الرغم من كل التحديات فالأمل كبير بعزيمة الفلسطينيين واندفاعهم للنجاح - إذا توفرت لهم الفرص.

ويختتم بقوله: "اضطر الفلسطينيون لأن يتعاملوا مع الحواجز المادية وغير المادية، وأصبحوا خبراء في الإطاحة بالحواجز. لن تجد هذه الروح والعزيمة في مكان آخر ــ أو على الأقل، ليس بنفس القوة والعزم". — PA