بناء الإرث

السركال أفنيو، مركز الفنون المعاصرة في دبي، يرسي جذوره من خلال مؤسسته وأعماله الخيرية.

ربما لمح زوار السركال أفنيو، منطقة الفنون النابضة بالحياة في دبي، مؤخراً خطوطاً طويلةً من الأشرطة البيضاء المتعرجة عبر الساحة المركزية المرصوفة بالطوب المعروفة باسم "ذا يارد".

هذه الخطوط ليست شكلاً من أشكال التخريب ولا عملاً من أعمال الصيانة الروتينية، بل علامات وضعتها تانيا أورسومارزو، المهندسة المعمارية الكندية المولد والأستاذة المساعدة في الجامعة الأمريكية في الشارقة، لتحديد خطوط الضوء والظل وأنماط الرياح والأصوات في الساحة استعداداً لتنفيذ عمل فني جديد.

والعمل النهائي - الذي لم يتم كشف النقاب عنه بعد – ليس إلا مثالاً واحداً على أحد اشكال الفنون البديلة ومشاريع البحث والأداء التي تتيحها مؤسسة السركال للفنون، الذراع غير الربحية للسركال، المؤسسة الثقافية المدعومة من العائلة والتي نجحت في وضع دبي بشكل واضح وصريح على حريطة الفنون العالمية.

حتى الآن، موّلت المؤسسة تسع دورات إقامة، وتم عقد الدورتين الأخيرتين من قبل الفنان البصري والمخرج السينمائي ويلف سبيلر الذي يتخذ من لندن مقراً له والثنائي دوروتا جاويدا وإيجله كولبوكايته من مجموعة ’يونغ جيرل ريدينغ‘ من مدينة بازل.

وتم عرض الأعمال النهائية في استوديوهات مفتوحة خلال أسبوع السركال للفنون في مارس وخلال مجموعة من الفعاليات العامة الأخرى.

وبالتوازي مع برامج الإقامة، قدمت المؤسسة أيضاً منحاً بحثية - تتراوح قيمة كل منها بين 5,000 و15,000 دولار – من أجل دعم "الأفراد والجماعات الذين يتمتعون بالحيوية ويتحدون النماذج التقليدية" في أعمالهم.

وقد تم الكشف عن المجموعة الأولى من الباحثين العام الماضي ومن المقرر الإعلان عن أسماء المزيد منهم خلال عام 2022.

الحاصلون على منح مؤسسة السركال للفنون لعام 2020

ضمت الدفعة الأولى من الحاصلين على المنح البحثية التي قدمتها السركال والتي تم كشف النقاب عنها العام الماضي ليا مورين، الخبيرة في السينما المغربية التي تتخذ من الدار البيضاء مقراً لها؛ والمصممة والفنانة المتعددة التخصصات منار مرسي من القاهرة المهتمة بأنماط بناء المساجد في مصر؛ وشبانا رجاني من كراتشي وجيان بينجان لاسوس من بانكوك اللتين شاركنا بدراسة حول تغير المناخ والاضطرابات البيئية وتطوير البنية التحتية والعسكرة في مناطق الدلتا في باكستان.

"إنه تعاون واستثمار في الناس والاقتصاد الإبداعي والإنتاج الفني".

عبد المنعم بن عيسى السركال، المؤسس المشارك للسركال.

إن رعاية المؤسسة لهذه المنح البحثية وبرامج الإقامة، كما تقول فيلما جوركوت، المدير التنفيذي للسركال، متجذرة في رغبة المؤسس المشارك للمنطقة، عبد المنعم بن عيسى السركال، في "دعم الممارسات والسرديات البديلة" وبناء "مستودع حي للمعارف المتعددة التخصصات ... التي يمكن مشاركتها وتبادلها عبر الحدود".

بعبارة أبسط، يقول رجل الأعمال الإماراتي أن هدفه هو رد الجميل للإمارات وسكانها. ويوضح في حديث مع ’زمن العطاء‘ قائلاً: "إنه تعاون واستثمار في الناس والاقتصاد الإبداعي والإنتاج الفني". ويضيف: "إنه جزء من بناء الإرث والمشاركة ... ومنح سكان دبي والإمارات العربية المتحدة شعوراً بالانتماء ... ومجتمعاً من الأشخاص ذوي التفكير الاستشرافي".

ولا يحبذ عبد المنعم أن يتم وصفه برائد عطاء، إذ يقول: "أتردد جداً في استخدام مصطلح العطاء والعمل الخيري ...  جئت من عائلة موسرة لكنني لا أحب التفاخر بذلك".

وإخلاصاً لمبدئه هذا، يرفض عبد المنعم مشاركة القيمة المالية لمساهمة أسرته في المؤسسة، إذ يقول: "لا نقوم بالإعلان عن ذلك" موضحاً أنها ليست هبة بمعناها الرسمي وإنما "تعهد والتزام".

ويعود هذا الالتزام إلى عام 2007 عندما أطلق عبد المنعم وشقيقه أحمد ’السركال أفنيو‘. وكان كل منهما قد أنشأ مؤسسته الخاصة، لكن في عام 2019، انضوت مؤسسة أحمد السركال الثقافية تحت مظلة منظمة عبد المنعم لتصبح مؤسسة واحدة. في الوقت نفسه، انضم ثمانية من أفراد الأسرة الأصغر سناً إلى مجلس إدارتها.

ويعد هذا الارتباط بالجيل الجديد أمراً مهماً للغاية بالنسبة لعبد المنعم الذي يأخذ مسألة بناء الإرث على محمل الجد، إذ يقول: "إن رؤيتهم وهم منخرطون في العمل تبعث على الحماس ... يسعدني حقاً أن أراهم يشتركون في هذه الجهود ويمضون بها قدماً."

وحول ما إذا كانت المؤسسة ستعمل رسمياً على هذا النحو، تقول جوركوت أنها تميل أكثر لكونها "نموذجاً محلياً"، وتوضح بالقول: "تعتبر المؤسسة الفنية مفهوماً غربياً للغاية. لقد دار نقاش طويل حول ما إذا كان علينا اتباع ذلك هنا وتساءلنا عما تعنيه هذه العملية بالفعل".

وتضيف جوركوت: "الفكرة هي أننا كمؤسسة، يمكننا التعاون مع المنظمات غير الربحية الأخرى على مستوى العالم، ولكن فيما يتعلق بهيكلها فهي عبارة عن نموذج خاص بهذه المنطقة وبهذا السياق. لطالما كانت العائلة [السركال] ملتزمة بدعم الإنتاج الفني فضلاً عن تقديم المنح الدراسية والأبحاث".

كما هو الحال في العديد من الأماكن العامة في جميع أنحاء العالم، ألقت جائحة كوفيد-19 بظلالها على السركال أفنيو، الذي يشكل شبكة من المستودعات الواقعة في منطقة القوز في دبي، فعم الهدوء أروقة ما يزيد عن 70 من الغاليريات والشركات التي يديرها رواد الأعمال والمتاجر والأماكن العامة هناك.

وفي الوقت الذي كانت فيه صالات العرض مقفلة ولم يكن الفنانون قادرين على السفر، كان فريق السركال منهمكاً في العمل خلف الكواليس لإنشاء ’السركال أونلاين ‘Alserkal.Online، المساحة الرقمية الجديدة التي تُعنى، وفقاً لجوركوت، بـ "إضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة والتنوع".

ومع أن خطط إنشاء موقع إلكتروني جديد كانت قيد الإعداد منذ فترة، إلا أن الجائحة ساهمت في تسريع تنفيذها ليتم تحويل المعارض التي لم يعد من الممكن حضورها شخصياً إلى معارض إلكترونية واستبدال المحاضرات والفعاليات بمؤتمرات الفيديو.

وتوضح جوركوت بالقول: "لقد كان الموقع الإلكتروني الجديد بمثابة مختبر لتجربة أشكال مختلفة من البرامج والتعاقدات ورصد تجاوب الجمهور معها".

"لقد دفعتنا هذه التجربة لإعادة التفكير في موقعنا الإلكتروني وإعادة بلورته بشكل كامل. لقد أدركنا أن ما كان لدينا في السابق ليس أكثر من مجموعة من الفعاليات. لقد أردنا أن يكون الموقع الإلكتروني امتداداً لما يتم عرضه هنا ولذلك أعدنا تصميم رؤيتنا لهذه المساحة وكيف يمكننا الانخراط مع مجتمعنا الأوسع نطاقاً".

وكانت النتيجة مستودع متنوع وجذاب من المقالات والصور الفوتوغرافية والمحاضرات ومقاطع الفيديو، جنباً إلى جنب مع قوائم المعارض الحالية والفعاليات والأعمال التجارية المحلية التي عاد معظمها إلى مزاولة نشاطاته.

image title
ضمن مبادرة Pay It Forward التي أطلقها السركال أفنيو، أقام مطعم ’إنكد‘ INKED مطبخاً مجتمعياً لتوفير الوجبات الغذائية للأشخاص في منطقة القوز. الصورة: محمد سومجي.

بالإضافة إلى إعادة تصميم المساحة الرقمية، كان عام 2020 كذلك فرصة بالنسبة للسركال لإبراز تعاضده المجتمعي من خلال إطلاق العديد من المبادرات الخيرية.

والمثال الأبرز على هذا التعاضد مبادرة Pay It Forward التي تم من خلالها تجميد رسوم الإيجار لمدة ثلاثة أشهر للمستأجرين الذين توقف دخلهم بشكل مفاجئ بسبب عمليات الإغلاق التي فرضتها الجائحة مقابل تقديمهم خدمات مجتمعية وغيرها من أشكال الدعم.

قامت بعض الشركات في السركال أفنيو بصنع الأقنعة وتقديم اللوازم الصحية والوجبات الغذائية، فضلاً عن التبرع بالقسائم الغذائية. كما قدّم البعض الآخر خدمات مجانية أو خدمات بأسعار مخفضة كالنقل والتسويق وغيرها من المساعدات المهنية، وتم التبرع أيضاً بعائدات الفنون والمقتنيات الفنية.

وقال عبد المنعم في ذلك الوقت: "لطالما كان المجتمع حجر الأساس لمؤسستنا، وسنبقي هذه القيمة الجوهرية دائماً وأبداً في صميم كل ما نقوم به".

وبعد بضعة أشهر فقط، حشد المجتمع جهوده مرة ثانية استجابة للانفجار المدمر الذي هزّ بيروت، حيث تم جمع الأغذية والملابس والمواد الأخرى على مدار شهر وإرسالها إلى لبنان وتخصيص يوم خاص يتم خلاله رصد العائدات للاستجابة لمحنة بيروت، بينما قامت عائلة السركال بالتبرع بمبلغ يوازي الأموال التي تم جمعها.

 وتوضح جوركوت قائلة: "لقد قام الجميع حقاً بدورهم في خدمة المجتمع وكان هناك هذا الإحساس الحقيقي بالتعاون والالتفاف حول بعضنا البعض"، مضيفة أن الجائحة وانفجار بيروت شكلا "فرصة لإعادة التفكير في النماذج الدائرية" وبينا لنا كيف يمكننا ربط الفنون بالتحول الاجتماعي.

"ما نشهده حالياً هو مرحلة للتفكير واستشراف المستقبل".

 فيلما جوركوت، المدير التنفيذي للسركال.

وتطلعاً للمستقبل، وبينما تواصل دبي - وكذلك تدريجياً بقية مدن العالم – فتح الاقتصادات في أعقاب الجائحة، تسير مؤسسة السركال بخطى واثقة لتعزيز مكانتها ومستقبلها وتواصل إحداث التأثير على الرغم من حداثة عهدها.

ومن الأمثلة على ذلك الإطلاق الأخير للسركال الاستشارية، وهي شركة استشارية للفنون الهادفة إلى الربح التي تعمل مع عملاء من القطاع الخاص والحكومي في جميع أنحاء المنطقة على العديد من المشاريع.

وتقول جوركوت: "إنه لشرف كبير أن يصبح هذا الاقتصاد بمثابة نموذج للمنطقة ولذلك نتطلع إلى مشاركة المعرفة من خلال الإنتاج الفني وإحياء التراث".

وتضيف قائلة: "شهدنا أكثر من عقد من الإنجازات التي حققناها معاً كأسرة واحدة وبالتعاون مع المجتمع ... وما نشهده حالياً هو مرحلة للتفكير واستشراف المستقبل للسركال". -PA

اقرأ المزيد