حان الوقت لإدراج أمراض المناطق المدارية المهملة في كتب التاريخ

سايمون بلاند، الرئيس التنفيذي للمعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية، يدعو إلى تعاون أكبر في مكافحة أمراض المناطق المدارية المهملة.

تشكل أمراض المناطق المدارية المهملة مجموعة من 21 حالة موهنة تؤثر بشكل غير متناسب على السكان الأكثر فقراً وضعفاً في العالم والذين يعيشون في أكثر المناطق صعوبة في الوصول إليها.

وهذه الأمراض مثل داء الفيلاريات اللمفاوية وداء دودة غينيا والجذام وداء كلابية الذنب (العمى النهري) تتسبب في إصابة الملايين بالعمى والتشوه والإعاقة سنوياً، مما يبقي الأطفال خارج المدارس والآباء والأمهات عاطلين عن العمل ويكبد الدول خسائر اقتصادية بمليارات الدولارات بسبب انخفاض الإنتاجية.

ولعقود من الزمن، تم تجاهل العديد من أمراض المناطق المدارية المهملة والـ 1.6 مليار شخص الذين تؤثر على حياتهم. ويعزى ذلك جزئياً إلى الافتقار إلى الحوافز للبحث في تطوير أدوات ووسائل تشخيص وعلاجات جديدة بسبب عدم كفاية التمويل والاهتمام العالمي المحدود بالقضاء على هذه الأمراض.

ويستمر هذه الافتقار للاهتمام والتمويل على الرغم من سهولة الوقاية من هذه الأمراض وعلاجها مقارنة بأمراض أخرى مثل أمراض القلب.

لكن لحسن الحظ، لفتت الأحداث الأخيرة انتباه العالم، والممولين أيضاً، إلى التداعيات الصحية والاجتماعية والاقتصادية الوخيمة الناجمة عن أمراض المناطق المدارية المهملة والخسائر البشرية التي تسببها والتي تصل إلى 170,000 حالة وفاة يمكن الوقاية منها سنوياً.

يصادف يوم الـ 30 من يناير اليوم العالمي الرابع لأمراض المناطق المدارية المهملة، وهي مبادرة تقودها مؤسسة ’بلوغ الميل الأخير‘Reaching the Last Mile ، المسعي الخيري غي مجال الصحة العالمية للشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.

ومنذ إطلاقه في عام 2019، تضافرت جهود العديد من الشركاء للاحتفال باليوم العالمي للأمراض المدارية المهملة والمطالبة باتخاذ إجراءات من أجل التغلب على الأمراض المدارية المهملة تحت وسم #BeatNTDs.

ويعد اليوم العالمي للأمراض المدارية المهملة فرصة لرفع مستوى الوعي بشأن التحديات التي يواجهها المتأثرون من هذه الأمراض المرتبطة بالفقر والعقبات التي تحول دون القضاء عليها.

كما يمثل هذا اليوم لحظة تأمل في النجاحات التي تحققت في الآونة الأخيرة، حيث تمكنت خمسون دولة في جميع أنحاء العالم من القضاء على مرض واحد على الأقل من أمراض المناطق المهملة، فضلاً عن انخفاض عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى تدخلات بمقدار 600 مليون شخص مقارنة بعام 2010.

من جهة أخرى، قدمت صناعة الأدوية تبرعات سخية بلغت أكثر من 15 مليار علاج بين عامي 2012 و2022. وفي العام الماضي وحده، قضت بنغلاديش على داء الفيلاريات اللمفاوية في حين قضت غانا على مرض النوم (داء المثقبيات الأفريقي البشري).

ولعل الأمر الأبرز أن داء دودة غينيا (داء التنينات)، الذي أصاب أكثر من 3.5 مليون شخص منذ أن بدء الاحتفاظ بسجلات في ثمانينيات القرن الماضي، بات على وشك أن يصبح ثاني مرض بشري بعد الجدري يتم القضاء عليه، مع وجود 13 حالة فقط بحسب أحدث الإحصائيات.

ولطالما ظلت دولة الإمارات العربية المتحدة في طليعة جهود مكافحة أمراض المناطق المدارية المهملة. فقد كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، أول رئيس للبلاد، من أوائل المؤيدين لبرنامج دودة غينيا الذي أطلقه الرئيس جيمي كارتر بعد مغادرته البيت الأبيض عقب انتهاء ولايته.

وواصل نجله الشيخ محمد بن زايد، الرئيس الحالي لدولة الإمارات العربية المتحدة، هذا الإرث من خلال دعمه لمبادرة ’بلوغ الميل الأخير‘ والمعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية (غلايد) الذي أقوده من مقره في أبوظبي.

"لن نتمكن من البدء في القضاء على أمراض المناطق المهملة ومن ثم إدراجها، إلى جانب المعاناة التي تسببها، في كتب التاريخ ما لم نضافر جهودنا ونعمل معاً بكامل طاقتنا".

image title
صورة لرجل مصاب بمرض العمى النهري، التقطها المصور النيجيري أوموريجي أوساكبولور كجزء من معرض "إعادة صياغة الإهمال" (Reframing Neglect). الصورة: أوموريجي أوساكبولور

وخلال مؤتمر الأطراف (COP28) الذي عقد مؤخراً في دبي، نظمت مبادرة ’بلوغ الميل الأخير‘ منتدى حول يوم الصحة الأول في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ لتسليط الضوء على الأمراض المعدية كأمراض المناطق المدارية المهملة وكيف يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم انتشارها، فضلاً عن العمل المبتكر الذي يتم تنفيذه لتعزيز جهود القضاء عليها.

بالتعاون مع مؤسسة بيل وميليندا غيتس، عقد منتدى بلوغ الميل الأخير لحظة تعهد رفيعة المستوى في حفل خاص أقيم في المنطقة الزرقاء في مؤتمر الأطراف (COP28)، تعهدت خلاله مجموعة متنوعة من الممولين من القطاع الخاص والشركات والحكومات بتقديم أكثر من 780 مليون دولار للمساهمة في الوقاية من أمراض المناطق المدارية المهملة ومكافحتها والقضاء عليها.

وقد تعهدت مبادرة بلوغ الميل الأخير، التي خطت خطوات كبيرة في مكافحة أمراض المناطق المدارية المهملة، بمبلغ 100 مليون دولار من أجل توسيع صندوق بلوغ الميل الأخير، وهو صندوق مجمع يديره صندوق إنهاء الأمراض المهملة END Fund  يقع مقره في الولايات المتحدة، لتصل القيمة الإجمالية له إلى 500 مليون دولار.

ومن المقرر أن يؤدي هذا التوسع إلى تعزيز نطاق تأثير البرنامج من سبع دول إلى 39 دولة في جميع أنحاء أفريقيا واليمن، مع التركيز على هدف القضاء على اثنين من أمراض المناطق المدارية المهملة، وهما داء الفيلاريات اللمفاوية وداء كلابية الذنب (العمى النهري)، في القارة الأفريقية.

ومن بين المتعهدين الآخرين: مؤسسة غيتس، ودولة سيرا ليون، ومركز كارتر، ومؤسسة سايت سيفرز Sightsavers والصندوق العالمي لاستثمارات الطفولة، وصندوق هيلمزلي الخيري The Helmsley Charitable Trust، وصندوق إنهاء الأمراض المهملة The END Fund، وشركة أبوظبي الوطنية للتأمين.

وسيساعد مبلغ الـ 780 مليون دولار في تمويل البرامج الأساسية، ودعم البحوث والابتكارات الجديدة، وتعزيز الأنظمة الصحية والقوى العاملة على الخطوط الأمامية كي تتمكن من إدارة أمراض المناطق المدارية و منع انتشار ها.

كما يلعب هذا التمويل دوراً محورياً في دفع التقدم نحو الأهداف التي حددتها منظمة الصحة العالمية والتي تنص على تخلص من ما لا يقل عن 100 بلد من مرض واحد على الأقل من أمراض المناطق المهملة وخفض عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى علاج ضد أمراض المناطق المدارية المهملة بنسبة 90 بالمئة بحلول عام 2030.

وقد مثّل حجم التعهدات في منتدى بلوغ الميل الأخير في مؤتمر الأطراف (COP28) وتنوعها لحظة تاريخية للصحة العامة على مستوى العالم، مما يؤكد على التأثير القوي للشراكات الدائمة عبر القطاعات والجهات الفاعلة والحدود.

وفي عصر يواجه فيه العالم تحديات غير مسبوقة ناجمة عن تغير المناخ والصراعات، أصبحت ضرورة التعاون الوثيق أكثر وضوحاً من أي وقت مضى من أجل التغلب على جميع هذه العقبات.

image title
مدير عام منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، يتحدث في منتدى بلوغ الميل الأخير، الذي عُقد في دبي خلال مؤتمر الأطراف (COP28). الصورة: اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ

وقبل عام، بالتحديد في مؤتمر قمة كيغالي المعني بالملاريا وأمراض المناطق المدارية المهملة، تعهدت الوفود المشاركة في هذا المؤتمر، بما في ذلك الحكومات والبرلمانيون والقطاع الخاص ورواد العطاء والمجتمع المدني، بالالتزام بنهج "المجتمع بأكمله" من أجل تحقيق أهداف منظمة الصحة العالمية المتعلقة بأمراض المناطق المدارية المهملة.

وهذا النهج الشامل يدعو إلى مشاركة جميع القطاعات والجهات الفاعلة، واستكشاف التدخلات المتكاملة بهدف تقديم حلول فعّالة.

فعلى سبيل المثال، تدعم منظمات مثل معهد غلايد البحوث في الاستراتيجيات المتكاملة والعابرة للحدود في مناطق مثل الحدود بين ملاوي وموزمبيق وغانا وساحل العاج بهدف التصدي لانتقال داء كلابية الذنب. بالإضافة إلى ذلك، يدعم المعهد البحوث الأولية التي تدرس تأثيرات تغير المناخ على الأمراض المعدية من خلال تقديم جوائز فالكون للقضاء على الأمراض.

إن تضافر جهود الحكومات وروّاد العطاء والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص لمكافحة أمراض المناطق المدارية المهملة يدل على الالتزام المشترك بعدم ترك أحد يتخلف عن الركب. ونحن في معهد غلايد نؤكد على أن العمل المستدام لمكافحة أمراض المناطق المدارية المهملة يتطلب توفير حوافز للاستثمار والعمل والابتكار، التركيز على التعاون الهادف مع الشركاء والدول والمجتمعات، وتوفير بيانات قوية من أجل اتخاذ قرارات فعّالة.

وفي حين أنه من الصحيح أن العديد من وسائل التشخيص والأدوية يتم توفيرها مجاناً وعلى نطاق واسع من قبل شركات الأدوية والتكنولوجيا، إلا أن الحوافز للبحث عن أدوات أحدث لا تزال غير كافية. وقد يؤدي هذا النقص في الحوافز إلى إعاقة الابتكار، مما يشكل خطراً على التقدم، ويؤدي في بعض الحالات إلى التراجع.

يتطلب تحقيق هذه الأهداف العالمية لتحسين حياة الناس وإنقاذ الأرواح اهتماماً مستمراً واستثماراً ذكياً في مكافحة أمراض المناطق المدارية المهملة. لكل شخص دورٌ يلعبه، ويمكننا - بل يجب علينا - جميعاً أن نجعل أمراض المناطق المدارية المهملة أولوية صحية عالمية.

إن شعار اليوم العالمي للأمراض المدارية المهملة لهذا العام هو "الاتحاد والعمل والقضاء على الأمراض المهمة". إنها رسالة قوية وتذكير مهم بأهمية العمل الجماعي. فلن نتمكن من البدء في القضاء على أمراض المناطق المهملة ومن ثم إدراجها، إلى جانب المعاناة التي تسببها، في كتب التاريخ ما لم نضافر جهودنا ونعمل معاً بكامل طاقتنا.