عالم مترابط بشبكة واحدة

أصبح النفاذ الشامل إلى الإنترنت لجميع سكان العالم حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى، ومسألة محورية في بناء عالم أفضل مما كان عليه قبل تفشي جائحة كوفيد-19، هذا ما يدعو إليه أدريان لوفيت، الرئيس التنفيذي لمؤسسة شبكة الويب العالمية.


image title
أتت جائحة كوفيد-19 لتؤكد بشكل غير قابل للجدل على أن الإنترنت هي ضرورة أساسية في حياة البشر. الصورة: بانوس.

عندما اجتمع قادة 193 دولة في عام 2015 لبحث أهم وأكبر التحديات التي تواجه العالم، لم يكن لديهم أدنى فكرة عما ستؤول إليه الأمور بعد خمس سنوات: أن يتفشى وباء في كل أرجاء العالم، يقتل الناس ويقطع سبل العيش، ويقفل صناعات بأكملها، ويهدد العالم بركود اقتصادي واسع النطاق.

بينما يسعى قادة العالم، ومن بينهم قادة دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، يجب عليهم التنبه لمسألتين مهمتين. أولهما هو أن جائحة كوفيد-19 وآثارها المدمرة جعلت تحقيق هذه الأهداف مسألة عاجلة وحاسمة أكثر من أي وقت مضى؛ وثانيهما، أن أحد أهداف التنمية المستدامة المخفي بين بقية الأهداف، وهو النفاذ الشامل والميسور إلى الإنترنت في دول العالم الأقل نمواً خلال عام 2020، قد يكون هو المفتاح الرئيسي لتحقيق جميع الأهداف.

عندما تم تحديد هذا الهدف في عام 2015، كان نحو 43 بالمئة من سكان العالم يتمتعون باتصال بالإنترنت، لكن نمو أعداد مستخدمي الإنترنت كان بطيئاً جداً منذ ذلك الحين، واليوم لم تتجاوز نسبتهم أكثر من 50 بالمئة بقليل. هذا لا يعني فقط أننا أضعنا فرصة تحقيق الهدف في موعده هذا العام، لكن وفق تحليل لمؤسسة شبكة الويب العالمية (Web Foundation)، هناك تباطؤ في معدلات تبني الإنترنت. فقد تبين أن عدد الأفراد الذين بدأوا باستخدام الإنترنت لأول مرة يشهد تراجعاً بنسبة الثلث مقارنة بعددهم قبل عشر سنوات. والذي يدعو للقلق أكثر هو أن نسبة تبني الإنترنت في الدول المتدنية الدخل تراوح مكانها بمعدل 13 بالمئة فقط بينما تصل هذه النسبة إلى 85 بالمئة في الدول الغنية.

وفي غياب العمل الجاد والطموح لن نتمكن من ربط الجميع بالإنترنت قبل عقود من الزمن. فلا شك أن الذين تفاوضوا على الجدول الزمني لتحقيق أهداف التنمية المستدامة كانوا يدركون أهمية الالتزام به لمصلحة شعوبهم، لكن جائحة كوفيد-19 أتت لتؤكد بشكل غير قابل للجدل على أن الإنترنت هي ضرورة أساسية في حياة البشر ولتحقيق باقي الأهداف العالمية.

إذا نظرنا إلى قطاع التربية والتعليم، نرى أن تقنيات الإنترنت قدمت حلاً لمشكلة إغلاق المدارس بسبب الجائحة. فقد وفر التعليم عبر الإنترنت من خلال الدروس الافتراضية بيئة تعليمية تحمل بعض الشبه لجو الدراسة التقليدي لملايين الطلاب الذين اضطروا للبقاء في منازلهم. لكن هذا الأسلوب لم يخلُ من العقبات بالنسبة للعديد من الطلاب، إما بسب ضعف الربط بالإنترنت، أو لأن الاشتراك لا يسمح بنقل ما يكفي من البيانات، أو لأن هناك جهازاً واحداً يتشارك فيه أفراد الأسرة الواحدة – ما يجعل تجربة التعلم عبر الإنترنت صعبة أو مستحيلة. ومثال على ذلك ما تداولته الصحف في الهند عن الطالبة ناميتا نارايانان التي كانت تقضي يومياً ساعات في الدراسة فوق سطح منزل والديها لأنه كان المكان الوحيد في المنزل الذي يستقبل فيه هاتفها النقال الإشارة بشكل جيد.

لكن يبقى العديد غير هؤلاء بمعزل تام عن هذا الخيار، إذ يشير تقرير أصدرته مؤخراً منظمة اليونيسيف إلى أن ما لا يقل عن ثلث أطفال العالم يفتقدون للتقنيات التي تسمح لهم بالتعلم عن بُعد عبر الإنترنت. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تأثر نحو 100 مليون طفل بإغلاق المدارس بسبب جائحة كوفيد-19. وإذا كنا سننجح في "ضمان توفير التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع" (كما ينص عليه الهدف الرابع للتنمية المستدامة)، يتوجب علينا أن نضمن توفر مستلزمات التعليم عبر الإنترنت لكل الأطفال أينما كانوا.

من جهة أخرى، إذا نظرنا إلى الهدف الخامس والساعي لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، نجد أن شبكة الإنترنت وفرت فرصة تحويلية وتمكينية للنساء والفتيات حول العالم. فقد شكلت منصة تمكّن المرأة من تجاوز هيمنة الرجل على الحوار في البيئة التقليدية. كما ساعدت الفتيات على تعلم العديد من الأمور مثل كيفية الاعتناء بالصحة النسائية التي قد يعد التحدث عنها في البيت من المحرمات. فضلاً عن ذلك، تساعد الإنترنت المرأة على إطلاق الحملات للمطالبة بحقوقها وكسب التأييد، مثل حملة الحقوق الإنجابية في ناميبيا وحملة "أنا أيضاً".

لكن على الرغم من كل ذلك، لا تزال هناك فجوة رقمية بين الجنسين تحول دون أن تصبح الإنترنت القوة الدافعة لتحقيق المساواة بين الجنسين. في هذا الإطار، يشير تقرير صدر أوائل هذا العام إلى أنه من المرجح أن يكون اتصال الذكور بالإنترنت أعلى بنسبة 21 بالمئة مقارنة بالإناث، وأن هذه النسبة تصل إلى 52 بالمئة في أقل البلدان نمواً. وتُقدر هذه النسبة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنحو 9 بالمئة فقط، لكنها تبقى عقبة.

ومن شأن النفاذ إلى الإنترنت من قبل الجميع أن يكون عاملاً مساعداً قوياً لتحقيق المساواة بين الجنسين في فترة ما بعد الجائحة التي أثرت بشكل غير متكافئ على النساء اللواتي غالباً ما يعملن في الاقتصاد غير الرسمي ويتحملن بشكل متزايد المسؤولية الرئيسية عن أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر.

لكن كي يصبح هذا واقعاً، ينبغي على الحكومات أن تضاعف جهودها لسد الفجوة بين الجنسين، إذ لا يمكننا أن نسمح للأدوات القادرة على تمكين الملايين من النساء أن تصبح العائق أمامهن، وأن يستمر استخدامها كأداة لتعزيز عدم المساواة من خلال النفاذ إليها بشكل غير متوازن.

لقد كان عام 2020 عاماً صعباً، لكننا إذا تخيلنا كيف ستكون عليه أهداف التنمية المستدامة في عالم يتوفر فيه النفاذ إلى الإنترنت لكل البشر، يمكننا حينها تصور الأمور العظيمة التي يمكن تحقيقيها.

واليوم، وبينما ينشغل مجتمع الصحة العالمي بمكافحة جائحة كوفيد-19، تحذر الأمم المتحدة من أن تعطيل الخدمات الصحية القائمة قد يبطل التقدم الذي تم إنجازه خلال العقود الماضية في مجال الصحة نحو ضمان تمتع جميع البشر بحياة صحية (وهو الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة). لكن عندما تتوفر خدمة جيدة للاتصال بالإنترنت، يصبح بإمكان الأسر غير القادرة على الحصول على الرعاية الصحية بشكل منتظم الوصول بشكل أفضل إلى المعلومات الصحية؛ أو التحدث إلى عامل صحي أو تلقي استشارة طبيب في بيئة افتراضية؛ أو الحصول على علاج فعال أكثر من قبل العيادات التي لديها نفاذ إلى السجلات الطبية للمرضى عبر الإنترنت.

على صعيد آخر، تهدد جائحة كوفيد-19 بدفع 71 مليون شخص إضافي إلى دائرة الفقر المدقع – يعيش العديد منهم في الدول المتدنية الدخل. لكن من خلال دعم سبل الاتصال بالإنترنت في أفقر الدول، مثلما تفعل كوستاريكا، يمكن أن نساعد الملايين على تعلم مهارات جديدة، وبناء علاقات جديدة، وإيجاد طرق جديدة لتأمين سبل العيش لهم ولأسرهم.

وفي الوقت الذي باتت فيه أزمة كوفيد-19 تشكل عبئاً على الإنتاج الزراعي، الأمر الذي يهدد تحقيق الهدف الثاني للتنمية المستدامة – وهو إنهاء الجوع – هناك أدوات رقمية يمكنها أن تزود المزارعين بمستجدات السوق وتوقعات الطقس، ما يساهم في رفع مستوى إنتاجيتهم.

هكذا نرى أن الرعاية الصحية، والتعليم، والنمو الاقتصادي، والمساواة بين الجنسين، والإنتاج الغذائي، يمكن لها جميعاً أن تتحسن عندما تتوفر خدمات الإنترنت لجميع البشر. لذا، فإن توفر النفاذ إلى الإنترنت بأسعار ميسورة هو عامل أساسي في خطة عمل مبادرة "عقد من أجل الويب" (Contract for the Web) التي أطلقناها العام الماضي لتكون خارطة طريق لشبكة الويب كما نراها. ويمكننا أن نحول هذه الخطة إلى واقع لو قمنا جميعاً – مواطنين وشركات وحكومات – بالدفع نحو نفاذ شامل للإنترنت لجميع البشر ليكون حجر الزاوية لجهود البناء بشكل أفضل.

كما يجب ألّا نقف عند حدود النفاذ الأساسي فحسب، بل أن نسعى لتوفير اتصال ذي قيمة: أي أن يكون ربطاً سريعاً مع الإنترنت، وبحجم كافٍ للبيانات، وأن يتمكن المستخدمون من الاتصال بالإنترنت بانتظام وعبر الجهاز الذي يناسبهم. وما لا يقل أهمية أيضاً هو ضمان أن يكون المستخدمون قد اكتسبوا المهارات اللازمة للتنقل بسهولة وأمان بين صفحات الإنترنت.

إن العالم بهذه الصورة ليس بعيد المنال. ففي الأسبوع الماضي فقط، نشرت الأمم المتحدة تحليلاً أعده 'التحالفَ من أجل إنترنت بأسعار معقولة'، وهو إحدى مبادرات مؤسسة الويب، قدّر قيمة ربط الثلاثة مليارات المتبقين من سكان العالم بالإنترنت على مدى عشرة أعوام وبحلول عام 2030 بنحو 428 مليار دولار. قد تبدو هذه التكلفة عالية، لكنها فعلاً معقولة إذا أخذنا بالاعتبار أن العالم ينفق ما يعادل هذا المبلغ على شراء المشروبات الغازية كل عام، أو إذا أخذنا مثالاً أنسب ضمن سياق كوفيد-19، فإنه يعادل مجموع حزم الإنقاذ التي تعهدت بها كل من ألمانيا وكندا وكوريا الجنوبية في ظل الجائحة.

يدعو آخر أهداف التنمية المستدامة إلى إقامة شراكة عالمية لتحقيق التنمية المستدامة. هذا يعني أن يعمل معاً كل من ممثلي الحكومات، وقادة الصناعة، وصناديق التنمية، والمجتمع المدني، لتوفير الموارد المطلوبة لربط العالم مع بعضه البعض في شبكة واحدة. ويمكن للمؤسسات الخيرية وغيرها من الممولين أن يسهموا في هذه الجهود من خلال الاستثمار في توفير اتصال جيد بالإنترنت يقدم للمستخدمين القيمة المطلوبة كركيزة وضرورة لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية. مؤسسة الويب والتحالفَ من أجل إنترنت بأسعار معقولة، هما منظمتان تعملان بدون كلل لوضع هذه المسألة على أجندات صانعي القرار الدوليين.

نحن نمتلك المعرفة التقنية والوسائل المالية للمساهمة في تحقيق الأهداف العالمية، ولا ينقصنا سوى التزام القادة وتعاونهم لنحدث الفرق. – PA

"الرعاية الصحية، والتعليم، والنمو الاقتصادي، والمساواة بين الجنسين، والإنتاج الغذائي، يمكن لها جميعاً أن تتحسن عندما تتوفر الإنترنت لجميع البشر".

نبذة عن الكاتب

أدريان لوفيت هو الرئيس التنفيذي لمؤسسة شبكة الويب العالمية غير الربحية التي تم تأسيسها في عام 2009 على يد مخترع الشبكة العنكبوتية العالمية (الويب) السير تيم بيرنرز- لي بهدف الارتقاء بهذه الشبكة المفتوحة بوصفها منصة ذات نفع عام وحقاً أساسياً للجميع. يشغل لوفيت أيضاً منصب مفوض لجنة الأمم المتحدة للنطاق العريض والرئيس المشارك لمجلس إنترنت الأشياء التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي. وكانت مؤسسة ثومسون رويترز، وهي الذراع الخيرية لشركة ثومسون رويترز، قد نشرت في وقت سابق نسخة منقحة من هذه المقالة.