اللـــحـــظـــة

التاريخ: يوليو 1990

اللقاء الذي غير العالم

في نهاية حديث دار بين الشيخ زايد والرئيس كارتر قبل نحو 30 عاماً نشأت بينهما شراكة لخدمة الإنسانية ساهمت في شبه القضاء على أحد أكثر الأمراض الموهنة والمقعدة في العالم.

لم يسلط الإعلام الضوء على داء دودة غينيا إلا ما ندر. وعندما تم أول لقاء بين الرئيس الأميركي السابق، جيمي كارتر، والوالد المؤسس لدولة الإمارات الشيخ زايد في أبوظبي في عام 1990، كان هذا المرض يرعب الملايين في أكثر من 23,000 قرية في قارتي آسيا وأفريقيا، بينما كانت هذه المشكلة غائبة عن الأذهان في الغرب.

كانت على أجندة الحوار في ذلك اليوم خطة وضعها كارتر لشن الحرب على ذلك المرض، أملاً بأن تصبح دودة غينيا ثاني مرض يتم القضاء عليه نهائياً في العالم بعد داء الجدري. أثمر اللقاء عن شراكة لخدمة الإنسانية دامت لثلاثة عقود وساهمت في تحقيق إنجازات قاربت القضاء على المرض. 

يتحدث جايسن كارتر، وهو حفيد الرئيس كارتر ورئيس مجلس أمناء مركز كارتر، عن تلك الشراكة، فيقول: "ابتدأت شراكتهما في وقت لم تكن غالبية الناس تدري ما هي الأمراض المدارية المهملة. لكن هذين القائدين العظيمين شعرا بالرابطة الإنسانية تجاه المتضررين والرغبة بمساعدتهم، ذلك في الوقت الذي تجاهل فيه الكثيرون معاناتهم. كانت هناك صلة إنسانية قوية بينهما".

كانت الهبة التي قدمها الشيخ زايد لمركز كارتر آنذاك بداية رحلة طويلة قدمت خلالها دولة الإمارات العربية المتحدة ملايين الدولارات في سبيل مكافحة دودة غينيا ضمن جهود منسقة أثمرت عن القضاء على المرض في معظم المناطق التي كان يستوطن بها، ولم يبق سوى بعض الجيوب في أماكن ريفية نائية في أفريقيا. وهكذا، قدمت دولة الإمارات من خلال عائلة آل نهيان ما بلغ مجموعه 35 مليون دولار للمركز، لتصبح الإمارات اليوم ثالث أكبر المانحين في الحملة العالمية للقضاء على هذا المرض الطفيلي.

وكان لهذه الشراكة أن دامت عبر الأجيال، فمنذ وفاة الشيخ زايد حمل ابنه صاحب السمو ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد راية والده في العطاء والعمل الإنساني، واستمر في جهود القضاء على الأمراض التي يمكن الوقاية منها.

تتحدث ريم الهاشمي، وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي في الإمارات، عن الجهود الإنسانية المرتبطة بالصحة ومكافحة الأمراض بشكل مباشر أو غير مباشر التي تشارك بها دولة الإمارات في الخارج، فتقول: "سواء كانت على صعيد إتاحة فرص التعليم للأطفال أو تحسين معيشة البالغين، يمكن لهذه الجهود أن توفر فوائد تفوق المخرجات الصحية". وتضيف قائلة: "من بالغ الأهمية أن نبقى مثابرين خلال الميل الأخير، وهو عادة الأكثر صعوبة".

لقد كانت حملة القضاء على دودة غينيا شاقة وطويلة. وهذا الداء هو واحد من أكثر من 12 مرضاً تعرف بالأمراض المدارية المهملة – تشمل العمى النهري والجذام – تؤدي عادة إلى فقدان البصر وتشوهات جسدية، وتسبب إعاقات لملايين البشر في أفقر مجتمعات العالم. كما أن آثارها الاجتماعية والاقتصادية كثيرة، فهي تسبب خسائر بمليارات الدولارات من خلال منعها الأطفال من الذهاب إلى المدرسة، والبالغين من العمل.

يصيب مرض دودة غينيا الإنسان عند شربه لمياه ملوثة بيرقات الدودة، والتي تنمو داخل جسد المضيف على شكل شريط باهت اللون يصل طوله إلى متر واحد. لكن المرحلة الأصعب تتمثل في خروج الدودة عبر تقرحات في جلد المصاب على مدى أسابيع مسببة آلاماً مبرحة.

يلجأ المصابون غالباً إلى غمر أجسادهم بمياه الأنهر والبحيرات سعياً لتخفيف حدة الألم، لكن هذه الممارسة الخاطئة تجعل الدودة تطلق يرقات جديدة في الماء عند ملامستها له لتبدأ دورة حياة أخرى.

وعلى الرغم من عدم توفر أي دواء أو لقاح ضد هذا المرض، إلا أن الوقاية منه ممكنة - وهذا بالتحديد ما سعى إليه مركز كارتر على مدى عقود من العمل الشاق للوصول إلى المجتمعات المتضررة ومساعدتها بشتى الطرق، وذلك بدعم قوي من دولة الإمارات.

على امتداد منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، من جمهورية مالي إلى جنوب السودان، قام مركز كارتر بنشر التوعية بين المجتمعات المحلية المعرضة لمرض دودة غينيا، وقدم لها المرشحات لتصفية مياه الشرب. وبالتعاون مع السكان المحليين، شكل المركز شبكة لرصد مواقع الإصابات سعياً لاجتثاث أي أثر للداء.

ويقول كارتر: "يتم القضاء على مرض دودة غينيا عندما يبدأ سكان القرى الصغيرة المعرضة بتغيير عاداتهم اليومية. الحل يأتي عندما يأخذ السكان بزمام الأمور. فسكان القرى هؤلاء، سواء كانوا في نيجيريا أو أوغندا أو جنوب السودان أو أي مكان آخر هم الذين يقودون هذه المهام، فيغيرون حياة مجتمعاتهم والعالم".

وقد كانت النتائج مذهلة. ففي عام 1989 عندما بدأ مركز كارتر حملته ضد مرض دودة غينيا، كان عدد الإصابات يزيد عن 3.5 مليون إصابة حول العالم. لكن في عام 2019 لم يتعد هذا العدد الـ 54 إصابة عالمياً.

ولا يعد القضاء على مرض ما بشكل تام مهمة سهلة. فعلى مدى السنين، جابهت حملة القضاء على مرض دودة غينيا سلسلة من الانتكاسات، شملت توقف العمليات في مناطق أو تباطؤها في مناطق أخرى بسبب الصراعات والنزاعات المسلحة، وكان آخر هذه العقبات ظهور إصابات جديدة في الحيوانات. لكن دعم دولة الإمارات وتمويلها بقي ثابتاً خلال كل هذه الأزمات.

وكما يوضح كارتر، الشيء الأهم في كل هذا هو أن الحملة قدمت مثالاً على النتائج الاستثنائية التي يمكن للشراكات الثابتة والقوية بين القطاع الخيري والقطاعات الأخرى أن تنجزه سوياً. ويضيف قائلاً: "إن مثابرة العمل الإنساني وتصميمه الذي ظهر من خلال هذه الشراكة هو النموذج الذي يجب أن يحتذى به لإحداث التغيير الكبير والتعامل مع المشاكل الصعبة". 

ويبقى الهدف هو عدم وقوع أية إصابة جديدة بالمرض. —  PA