أفكار تغير العالم

كان بيل غيتس حتى وقت قصير أغنى رجل في العالم، لكنه اليوم اكتسب لقباً آخر وهو أنه أكثر رواد العطاء تأثيراً في العالم. يحدثنا غيتس عن العطاء في منطقة الخليج، وخطته لمكافحة الفقر في العالم الإسلامي.

يوجد في العالم اليوم مليار شخص يعانون من الفقر المدقع، من بينهم 40 بالمئة يعيشون في دول إسلامية. لكن هذا الواقع السيئ للملايين من الأسر قد يبدأ بالتحسن في السنوات المقبلة، والسبب هو إعلان كل من بيل غيتس، المؤسس المشارك لأثرى مؤسسة إنسانية خاصة، والبنك الإسلامي للتنمية، ومقره جدّة، في يونيو الماضي عن صندوق بقيمة 2.5 مليار دولار يهدف لنشل نحو 400 مليون شخص من أشد حالات البؤس والحرمان إلى فوق خط الفقر.

ويعلق غيتس على الشراكة مع الصندوق بقوله: "نحن نمتلك الخبرة، والبنك الإسلامي للتنمية لديه الدراية بكيفية إنجاز الأمور في المنطقة. وهذان أهم عاملين للنجاح". 

وترتكز الخطة الموضوعة للصندوق إلى توفير قروض ميسّرة. ومن المقرر أن يصرف البنك الإسلامي للتنمية خلال خمس سنوات ملياري دولار لتمويل مشاريع في قطاعات الصحة والزراعة والبنية التحتية في أفقر 30 بلداً أسلامياً. وتعمل مؤسسة بيل وميليندا غيتس على توفير هبات بقيمة 500 مليون دولار تُستخدم لتخفيض قيمة الفوائد على القروض وجعلها بمتناول أفقر دول العالم. وستساهم المؤسسة بمبلغ 100 مليون دولار من صندوقها الخاص، كما سيشارك صندوق التضامن الإسلامي للتنمية بمبلغ 100 مليون دولار أخرى، بينما أعلنت قطر في أبريل الماضي عن مساهمتها بمبلغ 50 مليون دولار. ويصف بيل غيتس الذي يحشد الجهود لاستقطاب مانحين أكثر المشروع بأنه "فرصة رائعة لأي شخص يهمه الدفع نحو التغيير الاجتماعي". ويضيف، مبتسماً "إنه فعلاً صندوق مهم".

دخل اليوم غيتس عقده السابع من العمر لكنه مازال يسعى لآفاق جديدة. كان غيتس في شبابه قد تخلى عن دراسته في جامعة هارفرد ليبني ثروةً كانت الأولى من نوعها في قطاع البرمجيات عن طريق شركته الشهيرة، مايكروسوفت. وفي العام 1986 تم تسجيل شركته في سوق الأسهم، وبعد مرور عام واحد فقط كان غيتس قد أصبح أصغر ملياردير عصامي في العالم وهو بعمر الـ 31. وفي العام 2008، تخلى غيتس عن إدارة شركته بعد أن أصبح واحداً من أثرى رجال العالم، ليكرس وقته للمؤسسة الخيرية التي كان قد أنشأها مع زوجته ميليندا قبل نحو ثماني سنوات. واليوم، تنفق مؤسسة بيل وميليندا غيتس، التي أصبحت أكبر مؤسسة خيرية خاصة في العالم، قرابة 4 مليارات دولار سنوياً على قضايا إنسانية متنوعة تشمل التعليم والنظافة وصحة المرأة، خلال سعيها لمكافحة المشاكل الأشمل وهي الفقر والأمراض. ولا شك أن غيتس هو اليوم أكثر رواد العطاء نفوذاً وتأثيراً في عالمنا.

"هدف عمل الخير هو أن يكون مختبراً للابتكار لما قد يؤدي إلى قفزةٍ نوعية أو تقدم ملموس".

يمكن وصف رحلة مؤسسة بيل وميليندا غيتس في عالم الإحسان بالخاطفة، وتميزت طريقة عملها بما يمكن تسميته بالعطاء المحفِّز، والذي يستثمر في تطبيق الأفكار المبتكرة والتي غالباً ما تكون محفوفة بالمجازفة لكن من شأن مردودها أن يكون عظيماً. وتستخدم المؤسسة هذه المقاربة في تعاملها مع أكبر المعضلات الاجتماعية والاقتصادية، كما يستهدف عطاؤها الفجوات التي تفصل بين القوى السياسية وقوى السوق، وهذا ما يصفه غيتس بأنه "الدفع بالأمور قُدُماً في المواقع التي يعجز فيها أو يتجنبها الآخرون". 

ويوضح غيتس قائلاً: "إن هدف عمل الخير هو أن يكون مختبراً للابتكار لما قد يؤدي إلى قفزةٍ أو تقدم ملموس؛ أن تتوفر الإرادة للتفكير بالأمور والتمعن بها".

قضية الملاريا هي حالة مثالية لتوضيح نهج المؤسسة. فهذا المرض الذي ينتقل من إنسان إلى آخر عن طريق لسعة البعوض، كان السبب في وفاة 438,000 ضحية في العام 2015، غالبيتهم من الأطفال تحت سن الخامسة. وتصيب الملاريا نحو 200 مليون شخص سنوياً، لكن بما أن معظم ضحايا الملاريا هم من الفئات السكانية الفقيرة، لم يتواجد الحافز الكافي للسعي جدياً إلى تطوير لقاح فعّال. هنا يأتي دور مؤسسة غيتس، فقد ضخت ملايين الدولارات في الجهود الهادفة إلى القضاء على المرض ـ كان آخرها الإعلان في يناير الماضي عن إطلاق صندوق بقيمة 4.28 مليون دولار بالشراكة مع الحكومة البريطانية لتحقيق حلم كبير وهو عالم خالٍ من داء الملاريا بحلول العام 2040. 

لكن المشهد لا يخلو من الناقدين، فالبعض يقول أن المؤسسة تمارس تأثيراً غير متكافئ أو متناسب، وأن نفوذها المدعوم بـ 40 مليار دولار يجعلها قادرة على أن تحرف توجه البحوث وتؤثر على أولويات المساعدات الإنسانية، ما يعطيها القدرة على حجب طرق التعامل والمقاربات التي قد تكون منافسة لمقارباتها. بالمقابل، تشير المؤسسة إلى نهج الشفافية الذي تتبعه، وبأن علاقاتها الوثيقة مع أعداد كبيرة من الجهات الحكومية والمنظمات غير الربحية والشركاء هي ما يساعد على تحديد الأولويات في عطائها. وفي باب الرد على النقد، نقلت صحيفة الـ "فايننشال تايمز" في مارس الماضي عن الرئيس التنفيذي لمؤسسة بيل وميليندا غيتس، سو ديسموند هيلمان، قولها: "للناس أن تحاسبنا عندما تنظر بما أنجزناه".

image title

وبالنتيجة، فإن التأثير على توجّه العطاء الإنساني يتطلب أكثر مما يوفره المال من نفوذ. فقد وظّف غيتس نفس الطاقات الذهنية في الشؤون المتعلقة بالعمل الإنساني كما كان قد وظفها سابقاً في أعماله التجارية. وقد أعاد النظر في العديد من الأمور؛ بدءاً بسلسلة التبريد التي تحافظ على درجة حرارة محددة للّقاحات منذ لحظة إنتاجها وحتى دخولها إلى جسم الإنسان، ثم إلى المراحيض ليتم استخدامها ـ فلم يترفّع عن البحث بدقة في أي جانب من جوانب الدعم الإنساني مهما بدا شأنه وضيعاً للبعض إذا بدا له أن بحثه هذا قد يؤدي إلى حل مشكلة مهمة أو تحقيق الفوائد. يذكر هنا، على سبيل المثال، لقاء بيل غيتس مع ممثلي وسائل الإعلام عام 2011 بعد اجتماعه مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس ألمانيا حينها، كريستيان فولف؛ عندما أجاب على أسئلة الصحافيين قائلاً لهم أنه والشخصيتين الأرفع في حكومة ألمانيا لم يتداولوا المواضيع السياسية في اجتماعهم، بل بحثوا عوضاً عن ذلك في موضوع "المرحاض المثالي".

ولا يخفى على أحد أن الأهداف الكبرى لمؤسسة بيل وميليندا غيتس الخيرية ـ كما هو الحال مع ميزانيتها ـ ضخمة. فمثلاً، تهدف استراتيجيتها المتعلقة بالتطعيم ضد الأمراض إلى توفير اللقاحات الضرورية الموجودة حالياً ـ من لقاح فيروس الروتا إلى الحصبة ـ لكل إنسان في كل بقعة من بقاع العالم بحلول العام 2020. ومن شأن هذه الخطة، التي حظيت بتأييد 194 دولة، أن تمنع أكثر من 11 مليون حالة وفاة و3.9 مليون حالة إعاقة محتملة. 

وفي أفريقيا جنوب الصحراء تسعى المؤسسة لإحداث ثورة خضراء على غرار التغييرات الكبيرة التي طرأت على مشهد الزراعة في آسيا إثر الحرب العالمية الثانية، فهي تؤمن بأنه عندما تتوفر المساعدة المطلوبة سيكون بإمكان المزارعين في أفريقيا رفع حجم إنتاجهم من المحاصيل بنسبة 50 بالمئة. وعليه، فإن القارة السوداء قادرة على توفير غذائها بنفسها بحلول العام 2030، ما يمكّنها من ادخار نحو 50 مليار دولار ليتم إنفاقها سنوياً على الأغذية المستوردة. 

ويقول بيل غيتس على هذا الصعيد: "يعادل الإنتاج الزراعي الإجمالي لقارة أفريقيا نحو سُدس إنتاج الولايات المتحدة، وزيادة هذا الإنتاج بضعف واحد هو أمر قابل للتحقيق بشكلٍ كبير". ويضيف: "هكذا يمكننا التخلص من مشكلة سوء التغذية، كما يمكننا إطعام العالم؛ وبهذه الطريقة يمكننا رفع مستوى مدخول الأسرة لدفع أقساط المدارس". 

لقد أنفقت مؤسسة بيل وميليندا غيتس ما يزيد عن ملياري دولار في مساعدة صغار المزارعين على تعظيم ما تدرّه أراضيهم من محاصيل وإيرادات وتسهيل نفاذهم إلى الأسواق. وتضم هذه المساعدات بذوراً هجينة ذات مقاومة أكبر للأمراض والجفاف، وأنظمة قادرة على تقديم معلومات مهمة عن التربة والمواشي وأسعار المواد الزراعية في السوق وغيرها من المعلومات المفيدة للمزارعين، وذلك عبر هواتفهم النقالة. كما تحاول المؤسسة دائماً إقناع الحكومات بضرورة إصلاح الطرق الرديئة وتوفير التمويل للبنية التحتية، إذ تشكل تكلفة عمليات نقل المنتجات عبر طرقات أفريقيا أربعة أضعاف ما يكلفه النقل البري في الدول المتقدمة. 

ويعلق غيتس على هذه الأمور قائلاً: "إذا وضعت الأمور في نصابها بالشكل الصحيح في قضايا الصحة والتعليم والاستقرار، يمكنك حينها أن تشهد معجزات مماثلة لتلك التي حصلت في الصين والتي نشلت من الفقر أعداداً من السكان بين العام 1980 واليوم أكثر من أية دولة أخرى في العالم". ويضيف غيتس قائلاً: "ما نشهده اليوم في أفريقيا هو أمر مشجع للغاية".

"الكرم ميزة قوية تتصف بها منطقة الخليج، لكن بعض هذا الكرم يأتي في قالب الإحسان الصرف".

لكن لا يستطيع شخص واحد أن ينجز مهمة إنقاذ العالم، لذا فإن عملية دفع الآخرين وتحفيزهم على الانضمام ضرورية جداً. ولذلك أطلق غيتس وزوجته والملياردير وارن بافيت في العام 2010 حملة "تعهد العطاء" التي تحث أصحاب المليارات على التبرع بما لا يقل عن نصف ثرواتهم لعمل الخيرولغاية اليوم بلغ عدد الأثرياء الذين انضموا للحملة 154، منهم رجل الأعمال البريطاني ريتشارد برانسون، ومؤسس "فيسبوك" مارك زوكيربيرغ.

وفي حديثه عن الأشخاص الذين شاركوا بالتعهد، قال غيتس في وقت سابق من هذا العام: "بعضهم كان قد بدأ رحلة العطاء منذ عقود من الزمن، والبعض الآخر قد بدأها الآن، لكنهم جميعاً يتشاركون بنظرتهم في أن العطاء يكتسب قيمة عالية عندما يتم منحه بطريقة جريئة وفعّالة". 

وفي يونيو، انضم الأمير السعودي الوليد بن طلال إلى صفوف هؤلاء المانحين ليصبح أول ملياردير عربي مسلم يلتزم بهذا التعهد. وقبل أقل من سنة مضت كان الأمير قد تعهد بمنح ثروته البالغة قيمتها 32 مليار دولار لأعمال الخير من خلال مؤسسته الخيرية، وأشار حينها أن دعوة بيل غيتس كانت عاملاً أساسياً في قراره. وبذلك ينضم الأمير إلى شخصين آخرين يقيمان في دول مجلس التعاون الخليجي من الذين شاركوا بالمبادرة، وهما رجل الأعمال ساني فاركي، وبوتان مينون ـ صاحب مجموعة صبحة التي تتخذ دبي مقراً لها. ويأمل الكثيرون بأن تؤدي هذه الخطوات الفردية إلى نمط من العطاء الكبير الاستراتيجي بين كبار الأثرياء في دول المنطقة.

ويوضح غيتس قائلاً: "الكرم ميزة قوية تتصف بها منطقة الخليج، لكن بعض هذا الكرم يأتي في قالب الإحسان الصرف. أما من ناحية الاستعداد للانفتاح حول ما يجري ـ مثل تشجيع الآخرين على العطاء، ومشاركة المعلومات حول أعمال الخير التي تسير بشكل جيد أو تلك المتعثرة ـ فأعتقد أن هناك تحركاً في هذا الاتجاه، وأنا آمل أن يساعد عملنا بالدفع نحو هذا التوجه".

image title image title

لكن هذا التوجه مهم لأن من شأنه إحداث فارق كبير. فوفق مجلة "فوربس"، يعيش نحو 72 بالمئة من أثرى أثرياء العالم في منطقة الشرق الأوسط، وتقدّر ثروتهم مجتمعةً بحوالي 174.8 مليار دولار. لكن القليل من هؤلاء أنشؤوا أوقافاً أو هبات ضمن مخطط جريء لإدارة الأعمال الخيرية الهادفة والطويلة الأمد ـ وإن اختار المزيد من كبار الأثرياء هذا المنحى، فسيكون الأثر الطيب واضحاً على صعيد عدة قضايا، مثل مكافحة الفقر والبطالة والأمراض التي يعاني من ثقلها العديد من الدول الإسلامية.

وهنا يوضح غيتس بأنه لو توفر مقدار من الاستقرار الاقتصادي في هذه الدول ـ حتى لو كان قليلاً ـ فإن من شأنه أن يقود إلى الكثير من النتائج الرائعة. 

ويقول: "ما من شك، أنه مع ارتفاع مستوى معيشة الشعوب إلى مستوى الطبقة المتوسطة الدخل، ومع القضاء على الفقر المدقع، لن تبقى درجة عدم الاستقرار على ما هي عليه اليوم. إنها رحلة لا بد منها، وإن استغرقت بضعة عقود لتتحقق". 

الصندوق الجديد الذي أطلقته مؤسسة بيل وميليندا غيتس والبنك الإسلامي للتنمية بقيمة 2.5 مليار دولار، والذي أطلقت عليه تسمية "صندوق العيش والمعيشة" سيكون بمثابة مخطط عام للشراكات المستقبلية، جامعاً رأس المال بخبرات العمل الإنساني المناسبة. من ناحية أخرى، بدأت بالفعل بذور العطاء المحفز تؤتي ثمارها. ففي العام الماضي، منح رجل الأعمال الإماراتي عبدالله الغرير أكثر من مليار دولار ـ أي ما يعادل ثلث قيمة أعماله التجارية ـ إلى مؤسسة أنشأها لدعم التعليم في العالم العربي. 

ومؤسسة بيل وميليندا غيتس هي أيضاً شريك في صندوق الشفاء، وهو مبادرة مدعومة من شخصيات سعودية كبيرة تساهم في مشاريع عالمية تتعلق بالصحة. ويعمل هذا المشروع الذي يقوده خالد أحمد الجفالي وزوجته أُلفت على دعم عملية إنتاج لقاحات وأدوية بتكلفة منخفضة للأمراض المتفشية بين الطبقات الفقيرة. ومن المتوقع أن يؤدي هذا النوع من الاستثمار المؤثر إلى تغيير المعطيات الاجتماعية والاقتصادية على الأرض في منطقة الشرق الأوسط متى ما أثمر النتائج المرجوة منه. 

ويختتم غيتس بقوله: "هناك توجه عام نحو المزيد من العطاء، والعطاء بشكل أفضل، وتعلّم رواد العطاء من بعضهم البعض. ويسعدني أن أكون جزءاً من هذا التوجه وأن أشهده وهو يتنامى". – PA