الطبخ في سبيل قضية

تعرّف على المطعم الذي تتضمن قائمة وجباته حلولاً لقضايا النساء المهمشات في المغرب.

يمتلئ مطعم أمل في المدينة الحمراء، مراكش، بالزبائن في عطلة نهاية الأسبوع حيث يتم تقديم أشهر وجبة تقليدية مغاربية وهي الكسكس التي يتم إعدادها بعناية على يد فريق من الطهاة النساء تم تدريبهن على أفضل وصفات الطعام المحلية ومزيج التوابل الشعبية. لكن العديد من زبائن أمل لا يقصدون المطعم بفضل وجباته اللذيذة وبيئته الرحبة فحسب، بل مساهمة منهم بهدف أسمى من ذلك.

تقول نورا فيتزجيرالد بلحسن، مُؤسّسة المشروع الاجتماعي لمطعم أمل: "يتضاعف عدد زبائننا يوم الجمعة. فقلّة من الناس يمضون وقتهم لإعداد وجبة الكسكس في بيوتهم في عصرنا هذا، ما يجعلني أشعر بأن ما نفعله هنا هو إحياء لهذا التقليد".

في الحقيقة، فإن نموذج عمل مطعم أمل الذي يقع في حي جليز في مراكش لا يقتصر فقط على توفير قائمة طعام بالمأكولات المحلية، بل هو أيضاً مؤسسة تدريب مخصصة لمساعدة النساء المعوزات والمهمشات وضحايا الوصم الاجتماعي في مدينة مراكش على اكتساب مهارات الطهي والحصول على دخل ثابت من خلال توفير فرص عمل لهن تنشلهن من حياة التسول.

أتى مشروع أمل في وقت بدأت فيه المرأة المغربية تحصل على المزيد من حقوقها، إذ تم إصدار قوانين جديدة تمنع الزواج القسري، وتعاقب التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة. ولغاية اليوم تم تخريج ما يزيد عن 200 امرأة من برنامج أمل للتدريب الذي يدوم لفترة ستة أشهر، كما تم توظيف 80 بالمئة منهن في وظائف بدوام كامل سواء ضمن أمل أو في منافذ طعام أخرى. والجدير بالذكر أن زبائن مطعم أمل لا يدفعون ثمن وجباتهم فحسب، بل هم يساهمون أيضاً في الدفع نحو التغيير الاجتماعي الايجابي في مراكش.

وتقول نورا التي ولدت في المغرب من والدين أميركيين: "في الحصيلة، المهم هو أن طعامنا جيد جداً وبتكلفة معقولة، وفي ذات الوقت يمكن للزبائن أن يشعروا بالروح التي تميز المطعم. فهم فضلاً عن تناولهم الطعام، يأتوننا ليقدموا دعمهم وليكرموا تلك النساء في رحلتهن نحو حياة كريمة".

هكذا نجح مطعم أمل، الذي يقدم مأكولات محلية وعالمية لنحو 80 زبوناً في اليوم، يصنف دائماً ضمن أفضل ثلاثة مطاعم في مراكش وفق تصنيف موقع "تريب أدفايزر" العالمي. ومع هذا النجاح تم توسيع المشروع الاجتماعي في العام 2016 لتضاف إليه شركة تعهدات لتقديم الطعام، وهي توفر 100-150 وجبة في اليوم للمدارس، بالإضافة إلى توفير الطعام لعدة فعاليات كبيرة شهرياً – مثل حفل افتتاح متحف إيف سان لوران العام الماضي. هذا فضلاً عن دورات لتعليم فنون الطهي للسياح، يبلغ حجم عملياتها قرابة الـ 25,000 دولار في الشهر، تشكل الأرباح الصافية منها ما نسبته 5-10 بالمئة، وفقاً لنورا.

ومع ازدياد الطلب على برنامج التدريب، قامت نورا في العام 2016 بافتتاح مركز تدريب آخر في بلدة تارغة.

وتضم المتدربات في برنامج أمل نساءً مطلقاتٍ وأمهاتٍ وحيدات وأراملَ وأيتام – العديد منهن قد تخلت عنهن أسرهن والمجتمع المغربي – بالإضافة إلى نساء لم تسمح لهن الظروف بالتعلم في المدارس ويعشن في فقر مدقع، وهذه الفئة تشمل العديد من النساء اللواتي تم ارسالهن من القرى إلى المدن عندما كن فتيات صغيرات أو طفلات ليعملن خادمات في بيوت الأسر من الطبقة فوق الوسطى. يطلق على ضحايا هذه الظاهرة تسمية "الخادمات الصغيرات" اللواتي تخلت عنهن أسرهن بما يشبه تجارة الرقيق وحُرمن من الدراسة، فيعملن بين 14 و18 ساعة في اليوم لقاء أجر شهري زهيد يدفع لأسرهن. وتعلق نورا قائلة: "إنه نوع من أنواع العبودية".

وفي العام 2010 كانت هناك بين 60,000 و80,000 فتاة تتراوح أعمارهن بين السابعة والرابعة عشر يعملن كخادمات في البيوت في المغرب، وفق تقديرات منظمة إنصاف غير الربحية التي تتخذ من المغرب مقراً لها، والتي ساهمت جهودها في الدفع بسن قوانين تحد من انتشار هذه الظاهرة التي ما تزال آثارها مستمرة لغاية اليوم.

وتوضح نورا قائلة: "فقدت تلك النساء فرص الدراسة بالكامل؛ إنهن جيل تمت التضحية به. إنهن لم يرتكبن أخطاءً في حياتهن ليدفعن ثمنها اليوم. نحن نتيح لهن فرصة ثانية – فهن لم يحصلن في الأساس حتى على الفرصة الأولى في الحياة".

image title image title
تضم العاملات في مقاهي أمل وعددهن 21 عاملة سبع نساء مصابات بمتلازمة داون.

"لم ترتكب تلك النساء أخطاءً في حياتهن ليدفعن ثمنها اليوم. نحن نتيح لهن فرصة ثانية – فهن لم يحصلن في الأساس حتى على الفرصة الأولى في الحياة".

يأتي العديد من النساء اللواتي يلتحقن بالدورة التدريبية لأمل عن طريق مجموعة من المنظمات غير الربحية الشريكة التي تعمل في مراكش، وتشمل مأوى للأمهات الوحيدات وجمعية خيرية للأرامل والأيتام. أما غيرهن فتصلهن المعلومة حول برنامج أمل عن طريق التحادث مع الغير. وتقول نورا: "ترتدي المشاركات في برنامج أمل زياً موحداً باللونين البرتقالي والأخضر، ويستقللن الحافلات العامة للتنقل؛ ويحدث أن تسألهن إحدى الراكبات عن زيهن أو عملهن. وهكذا يتم تناقل الخبر بين الناس ليصل إلى المحتاجات".

يخرّج برنامج أمل 30 امرأة كل ستة أشهر بعد إكمال تدريبهن على جميع فنون الطبخ ضمن مركزيه للتدريب. وتستلم المتدربات أجراً لتغطية مصاريفهن المعيشية خلال فترة التدريب. ولا يقتصر التدريب على مهارات الطبخ، بل تشارك المتدربات في دروس تشمل اللغة الإنجليزية والفرنسية، والصحة والنظافة، ومهارات الحياة – وحتى ريادة المشاريع الصغيرة. وتشدد نورا على أهمية التقيّد بتعليمات البرنامج، فتقول: "يجب على المشاركات التحلي بالانضباط ليتمكنّ من إكمال الدورة بنجاح".

ويساهم برنامج أمل الخريجات على الحصول على فرص العمل في فنادق ومطاعم مراكش، فضلاً عن رياضها – وهي البيوت ذات فن العمارة التقليدية التي تحتوي على فناء مركزي يضم حديقة ونافورة، والتي تحوّل بعضها إلى فنادق ومطاعم فاخرة. وكما تقول نورا: "إيجاد الوظائف هو جزء كبير من أعمالنا. برأيي، أي مؤسسة تعمل على خلق الوظائف في المغرب هي مشروع اجتماعي، لأن [عدم توفر الوظائف] مشكلة كبيرة هنا".

تشكل النساء 26 بالمئة فقط من اليد العاملة في المغرب، وفق احصاءات البنك الدولي. أما معدلات البطالة بشكل عام فتصل إلى 9.3 بالمئة. وتعلق نورا قائلة: "إنه لأمر رائع أن نساهم بإيجاد وظائف في ظل هذه الأوضاع".

وقد نتج عن برنامج أمل مشاريع اجتماعية فرعية صغيرة، مثل مقهى "لغة الإشارة" الذي تعمل فيه اثنتان من خريجات أمل المصابات بالصمم، والذي تم تمويله بجزء من منحة بقيمة 15,000 دولار من صندوق النقد الدولي إثر زيارة قامت بها كريستين لاغارد لبرنامج أمل في العام 2018. هذا بالإضافة إلى مقهى "أمل 21" الذي افتتح مؤخراً والذي تعمل فيه سبع نساء مصابات بمتلازمة داون. ويجدر بالذكر أن هذين المشروعين كانا من بنات أفكار النساء العاملات في المنظمة، وفق ما تفيد به نورا، التي تضيف: "نحن في أمل لا نمكّن فقط المتدربات، بل أيضاً موظفينا لكي يطرحوا أفكارهم للنظر بتحقيقها. فنهج عملنا ليس من القمة إلى القاعدة".

وقد أصبحت أنشطة أمل اليوم معروفة للعديد من الناس وتعد جزءاً من الحياة اليومية في مراكش على الرغم من بداياتها الصغيرة. تعود نورا بذاكرتها إلى عام 2006 عندما صادفت امرأة تتسول في الشارع، فتقول: "كان وجه هذه السيدة مضيئاً وسمحاً. شعرت بأن هناك شيئاً يدفعني للتحدث معها. كان أطفالها جائعون، ولم يكن لديها نقود لتشتري لهم حليباً. وكان أطفالنا من ذات العمر. فلم يكن لدي الخيار سوى أن أقدم لها يد العون".

منذ لقائها بتلك السيدة، باتت نورا تقوم على مدى سنوات بجمع المال والتبرع به مباشرة إلى مجموعة متنامية من النساء المعوزات. وتقول نورا: "كانت جهودي حينها تقتصر على العمل الخيري التقليدي. لم أكن حينها أعي بما فيه الكفاية بوجود أساليب أخرى، أو ربما لم أكن أشعر بأنني قادرة على المساعدة بهذه الأساليب".

بدأ التحول في نمط تفكير نورا بعد قيامها بزيارة لجمعية التضامن النسائي، وهي منظمة غير ربحية رائدة تأسست في عام 1985، تشمل أعمالها تدريب الأمهات الوحيدات في مطعم تملكه في الدار البيضاء. ألهم عمل الجمعية نورا بأن تحاول شيئاً جديداً في نهج عملها الخيري، فبدأت بمبادرة صغيرة النطاق تعلّم من خلالها النساء المعوزات كيفية إعداد المعجنات والفطائر وبيعها في السوق. أدى نجاح هذه المبادرة إلى مدّ نورا بالثقة وتحفيزها لأن تطلق مشروع أمل في عام 2013.

وتقول نورا: "كانت هذه خطوة كبيرة بالنسبة لي. ففي فترة ما، لم يكن في حسابنا في البنك أكثر من 40 دولاراً. كنت أفكر أنه إذا تمكنا من الحصول على عدد كافٍ من الزبائن لدفع أجور تلك النساء يوماً بعد يوم، فهناك أمل".

كانت تكلفة تأسيس شركة ناشئة تقارب الـ 40,000 دولار. تمكنت نورا من جمع استثمارات بقيمة 30,000 دولار من خلال شبكة علاقاتها. لكن نقطة التحول كانت عندما تقدمت المؤسسة السويسرية 'دروسوس' Drosos بمقترح لتوفير التمويل الأولي للمشروع، فضلاً عن الخبرة الاستراتيجية اللازمة، على مدى ستة أشهر.

وتقول نورا: "لم توفر مؤسسة دروسوس لنا التمويل اللازم فحسب. إذ كانت حينها تراودني فكرة مشروع تتعلق بخدمات غذائية تستفيد منها النساء المحتاجات، لكن الفكرة كانت لا تزال غامضة وغير مكتملة. بفضل منهجية دروسوس، تم تحديد فكرة المشروع بشكل واضح جداً، وذلك من خلال الأسئلة التي طرحوها عليّ، مثل: كم عدد النساء اللواتي ترغبين بتدريبهم؟ ما هي احتياجاتك من الموارد البشرية والمعدات؟ ما هي مؤشرات الأداء للمشروع؟ وهكذا تطور المشروع من فكرة غامضة دفعني حدسي للمثابرة عليها، إلى مؤسسة قائمة.

وقد قامت مؤسسة دروسوس بتمويل المطعم لفترة ثلاث سنوات، لكن بعد انقضاء العام الأول من التشغيل تمكنّا من بلوغ نقطة التعادل بين المدخول والمصاريف. واستمرت دروسوس في مساعدتنا من خلال تمويل شركة التعهد بالمأكولات ضمن إطار شراكة أخرى لثلاث سنوات. ومع استمرار شركة التعهد بالنمو بوتيرة ثابتة، تتطلع نورا إلى توسيع نطاق أعمال أمل أكثر في المستقبل القريب.

تقول نورا: "نحن ننظر في تأسيس وحدة عمل جديدة تهتم بدراسة وإطلاق مشاريع مستقبلية، وتتابع عن كثب أيضاً سير العمل في المشاريع القائمة ونتائجها. فنحن نريد أن ندرك تماماً إذا كانت المهارات التي نعلمها للمتدربات هي حقاً ما يحتاجه سوق العمل، وهل هناك أمور أخرى يجب علينا الاهتمام بها؟ وهل تحافظ الخريجات على وظائفهن لوقت طويل؟".

إن تمكين مشروع أمل للنساء المعوزات يتردد صداه وأثاره الإيجابية على نطاق واسع. فبعض النساء تمكنّ من تحرير أنفسهن من الفقر ثم من أزواج كانوا يسيئون معاملتهن. كما أصبح بمقدور الأمهات الوحيدات رعاية أولادهن بشكل أفضل وتلبية احتياجاتهم. كما أن ذهاب الأمهات يومياً إلى التدريب – أو ما يشبه المدرسة – يحفز أولادهن على فعل المثل وعدم التغيب عن مدارسهم، كما تقول نورا، التي تضيف: "هناك العديد من الأمور الإيجابية".

وعلى الرغم من نجاح برنامج أمل في نشل النساء من دوامة الفقر، إلّا أنه يحدث أن تمتنع إحدى المتدربات عن الالتحاق أو متابعة البرنامج لسبب أو لآخر. وكان درساً قاسياً في البداية لنورا، إذ بعد عدة محاولات عديدة قامت بها على مدى خمسة أعوام لم تتمكن من مساعدة السيدة التي التقتها في الشارع والتي الهمتها للعمل الخيري. تقول نورا: "لم تكن ترغب بالحياة التي تمنيتها لها. اقتنعتُ بالنهاية بأنه لا يمكنك أن تحقق للناس شيئاً أكثر مما هم راضون به لأنفسهم".

image title image title
تخضع المتدربات لدى مبادرة أمل لستة أشهر من التدريب على مختلف مهارات الطهي.

"كانت جهودي حينها تقتصر على العمل الخيري التقليدي. لم أكن حينها أعي بما فيه الكفاية بوجود أساليب أخرى، أو ربما لم أكن أشعر بأنني قادرة على المساعدة بهذه الأساليب".

وفي الوقت الذي بدأت فيه بعض المفاهيم المجتمعية التقليدية في المغرب بالنضوج، يطرأ تحول جذري يوماً بعد يوم في مشهد التنمية والعمل الخيري نحو الاستدامة. وتقول نورا: "نشهد اليوم نقلة نوعية من مرحلة التنمية والعطاء التقليدي، الذي يقتصر على تقديم المال إلى المحتاجين، إلى مرحلة التدريب على المهارات وإقامة المشاريع الاجتماعية".

وترى نورا أن للمنظمات غير الربحية دوراً مهماً في هذا النقلة، فتضيف قائلة أن "القيود التي وضعت على عمل هذه المنظمات أقل بكثير من تلك التي تخضع لها شركات القطاع الخاص. لذا فهي قادرة أكثر على الابتكار، وأن تكون حلقة الوصل من خلال عملها مع كل من الدوائر الحكومية والقطاع الخاص في عملية الدفع بالتنمية".

وعلى الرغم من أنها لا تمتلك خبرة سابقة في العمل التنموي، نجحت نورا في إحداث الفرق في حياة الناس نحو الأفضل من خلال عزمها على ترجمة فكرتها إلى واقع ملموس يلقى اليوم التقدير من كل الأوساط.

وتؤكد نورا قائلة: "إن إدارة مطعم ليست بالأمر اليسير. وكذلك الأمر مع العمل التنموي المليء بالتحديات. نظرياً، لم يكن مقدّراً لهذه العمل أن ينجح"، لكنه نجح وبجدارة. وتختتم نورا بقولها: "أنا أؤمن بأن العمل الخيّر يجذب الخير. وكما يدل أسم مؤسستي، فأملنا قوي بأن المستقبل سيكون أفضل من الماضي". — PA