في عرض البحر

البحّارة والملاحون الذين يجوبون البحار هم الأبطال المجهولون للتجارة الدولية، حسب ما يقول أندي باورمان، المدير الإقليمي لمنظمة "مهمة من أجل البحّارة" في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. عندما تسوء الأمور، تسارع المنظمة غير الربحية، من بين القلائل من مثيلاتها، إلى نجدتهم.


"عمى البحر" هو مصطلح متداول باللغة الإنجليزية يطلق على قطاع الشحن البحري نظراً لكونه مخفياً عن أذهان الناس على الرغم من دوره الحيوي في عالمنا، إن كان على صعيد الاقتصاد العالمي أو معيشتنا اليومية – إذ أن 90 بالمئة من مجمل التجارة العالمية يتم عن طريق خطوط النقل البحرية. وينطبق هذا المفهوم أيضاً على العاملين على هذه الخطوط مثل البحّارة والملّاحين، الذين هم أشبه 'بالجنود المجهولين'. إن عددهم يقدّر بنحو 1.6 مليون شخص، لكنهم 'مخفيون عن الأنظار' وليس هناك من يحتفي بعملهم على الرغم من إننا نعتمد عليهم في جزء كبير من حياتنا. هناك منظمة تدرك جيداً صعوبة حياة البحّارة وتعمل على التخفيف من أعبائهم، تدعى منظمة "مهمة من أجل البحّارة" أو Mission to Seafarers (MtS).

هدفنا في "مهمة من أجل البحّارة" بسيط وواضح: نحن نرعى راحة البحّارة ورفاهيتهم أينما كانوا في العالم – سواء كانوا يعملون على متن ناقلة نفط عابرة للمحيطات أو زورق شراعي لصيد الأسماك في خور دبي. نستهدف بعملنا جميع طاقم السفينة بغض النظر عن الدين والجنس والجنسية والمنصب أو أي صفة أخرى. نعمل في 17 دولة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا – من مصر وحتى الهند – وخدماتنا متوفرة في 200 ميناء بحري حول العالم. وفي منطقتي الشرق الأوسط وجنوب آسيا وحدهما، نتفاعل مع ما قد يصل إلى 6,000 بحار كل شهر. كما ندعو قطاع الشحن البحري دائماً لرعاية أهم أصولهم – أي العاملون لديهم.

يختلف نوع الدعم الذي نقدمه للبحّارة بين مكان وآخر. فقد يتعلق بتزويدهم ببطاقات الهاتف أو النفاذ إلى جهاز 'واي فاي' يمكّنهم من التواصل مع أحبائهم في بلدهم – أو قد يتعلق الأمر بنقلهم من الموانئ إلى مراكزنا الخاصة بطواقم البحّارة حيث يمكنهم الاتصال بعائلاتهم أو وغسل ثيابهم، أو الاسترخاء. على سبيل المثال، مركزنا في دبي، الذي أُنشئ على أرض تم تقديمها كهبة، يضم مسبحاً ومطعماً ومكتبة وملاعب لكرة الطائرة لاستخدام البحّارة. كما نقوم بزيارة السفن الراسية في الموانئ لنقدم اللوازم المطلوب وأحياناً نوفر للبحّارة أذاناً صاغية فقط لما قد يرغبون بالتكلم عنه.

في الهند نوفر دعماً متنوعاً للأسر، كالتدريب المهني لزوجات البحّارة أو هبات لأسرهم أو دعم تعليمي لأطفالهم. هذا النهج الشمولي يعكس الواقع، وهو أن عالم الملاحة بدأ يتغير والطواقم تنحسر. ففي الهند وباكستان والفلبين يكون البحّارة عادة من يعيل أسرهم، وهم يتقاضون غالباً أدنى الأجور ويكونون الأقل تأهيلاً. وعندما تقل فرص عملهم، نحاول أن نمكّن أفراداً آخرين في الأسرة للمشاركة في تحمل أعباء المعيشة. 

إن نمط الحياة في البحر متعب. فليس من المعتاد أن يقوم الإنسان بعمله اليومي على متن سفينة تزن 3,000 طن وفي مختلف أحوال الطقس ولفترات قد تدوم لأشهر – هذا فضلاً عن مشاكل متعددة قد تزداد حدتها بشكل لا يخطر على بال إنسان. تكتسب صحة الإنسان النفسية والبدنية أهمية قصوى في عالم الملاحة. وتشير التقارير إلى أن معدل الإقدام على الانتحار يرتفع بنسبة 20 بالمئة بين البحّارة مقارنة بالعاملين بالمهن الأخرى، كما أنهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بنسبة 10 بالمئة، وأكثر عرضة للمعاناة من الشعور بالعزلة والوحدة بنسبة تزيد عن 30 بالمئة. هذا بالإضافة إلى مخاطر المهنة مثل العمل بمعدات ثقيلة، وتحميل البضائع الثقيلة حول العالم، فضلاً عن الأجور المتدنية، والبعد عن عائلاتهم. وبشكل عام، يعد عملهم موحشاً ومحفوفاً بالمخاطر.

image title
تفرض الحياة على متن سفن الشحن تحديات نفسية عميقة. لذا يزيد معدل الانتحار بين البحارة بسبب الاكتئاب الشديد بنسبة 20 بالمئة مقارنة بغيرهم.

استجابة لهذا الوضع، قمنا في منظمة "مهمة من أجل البحّارة" بتطوير 'مؤشر سعادة البحّار' الذي يستخدم تطبيقاً يمكن من خلاله للبحّارة أن يقيّموا مشاعرهم وأحاسيسهم في بداية كل رحلة ومنتصفها ونهايتها. يسمح هذا التطبيق لنا – وأحياناً لشركات الشحن – برصد معنويات البحّارة وصحتهم الذهنية، ويوفر لنا مع مرور الوقت تصوراً كاملاً عن كل بحّار. تساعدنا هذه المعلومات في رفع أو تخفيض مستوى الدعم الذي نوجهه لطاقم كل سفينة حسب الحاجة. وقد ساهم هذا المؤشر في رفع مستوى الوعي في القطاع حول أهمية الصحة الذهنية والنفسية لطواقم السفن.

عند حدوث مشاكل أو إخفاقات، يصبح البحّارة تحت رحمة رب العمل. يتمحور جزء كبير من عملنا حول كسب التأييد لقضايا البحّارة الذين تم التخلي عنهم في البحر لأشهر طويلة، وأحياناً لسنوات، من دون أن يحصلوا على أجورهم أو لوازمهم والذين باتوا يعيشون من دون كهرباء في ظروف قاسية جداً. إن مغادرة السفينة ليست مسألة سهلة – فقد يكونون على بعد 20 ميلاً أو أكثر من الشاطئ، ما يعني أن عليهم استخدام زوارق النجاة، بينما لا يكون لديهم في الغالب التصريحات أو التأشيرات لدخول أرض البلد – وإن وافقوا على ترحيلهم إلى أوطانهم، فمن المرجح أن يخسروا أجورهم المستحقة. وغالباً ما يجد البحّارة أنفسهم في مثل هذا الوضع في متاهة قانونية قد تستمر لأشهر طويلة.

عالمياً، تحصل نحو 75 بالمئة من الحالات التي يتم فيها هجر البحارة من قبل شركاتهم في منطقة الخليج. وأعتقد أن هذا يعود جزئياً إلى أن دول المنطقة لم تصادق على اتفاقية العمل البحري – ما يعني عدم وجود نقابات عمّالية التي تلعب عادة دوراً رئيسياً في الدعم الجماعي لقضايا البحّارة، وعدم توفر شروط حماية كافية للطواقم. هذا يجعل مسألة مقاضاة الشركات في حالات هجر البحّارة عسيرة جداً، عدا أن الحصول على نتائج عملية صعبة تتطلب وقتاً طويلاً وتكلفة عالية – ونادراً ما يستلم البحّارة كامل مستحقاتهم.

إن هجر البحارة ليس المشكلة الوحيدة التي تواجههم. فعلى سبيل المثال، نصادف أحياناً حالات يتم فيها جلب صيادي أسماك من الهند ليعملوا في زوارق الصيد في منطقة الخليج على مدى ستة أو تسعة أشهر في السنة. وتوفر لهم عقودهم عادة حصة في حصيلة صيدهم، لكن لا يسمح لهم بالصيد إلٌا بموافقة صاحب الزورق. أحياناً يجنون مدخولاً جيداً، لكن في أحيان أخرى قد ينتظرون لأشهر للحصول على الإذن بمتابعة الصيد، يبقون خلالها من دون دخل ومن دون حقوق. تحصل هذه الحالات على هامش القطاع البحري، ولا تلقى غالباً أي اهتمام أو لا تتم ملاحظتها.

كان أول اتصال تلقيته بعد التحاقي بمنظمة "مهمة من أجل البحّارة" في الإمارات العربية المتحدة عام 2018 من ربّان سفينة شحن اسمه أيابان سواميناثان. كان هو وسفينته وطاقمه عالقين قبالة ساحل الشارقة بانتظار مبالغ بآلاف الدولارات مستحقة لهم من دفعات متأخرة. أصبح سواميناثان نقطة الارتكاز لست سفن شحن أخرى و41 بحّاراً آخرين تم هجرهم من قبل الشركة ذاتها، وكان قد اتخذ قراره بعدم التخلي عن المطالبة بمستحقاته هو وطاقمه.

"إن نمط الحياة في البحر متعب. فليس من المعتاد أن يقوم الإنسان بعمله اليومي على متن سفينة تزن 3,000 طن وفي مختلف أحوال الطقس ولفترات قد تدوم أشهراً".

image title
الربّان أيابان سواميناثان (إلى اليمين) يغادر سفينته بعد أن بقي عالقاً هو وطاقمه لمدة عام ونصف في البحر مقابل ساحل الشارقة. مصدر الصورة: منظمة "مهمة من أجل البحّارة".

وبقي سواميناثان وطاقمه عالقين في البحر لمدة عام ونصف يعيشون في ظروف قاسية ويصارعون اليأس. كانوا يعتاشون على وجبة من العدس والأرز يعملون على طهيها بمياه البحر بعد تصفيته. وباتت السفينة التي يملؤها الصدأ مأواهم الوحيد بمعزل تام عن الحياة على اليابسة، واتصال محدود مع أسرهم. وكان لديهم القليل من الوقود ما يكفي لتشغيل مولّد الكهرباء على متن السفينة لفترة ساعة واحدة في اليوم. عملنا معهم بشكل وثيق محاولين إحراز تقدم في قضيتهم. تطلب الأمر أشهر طويلة أمضيناها في بذل جهود كسب الدعم لقضيتهم، والاستشارات القانونية، ومحاولات تحديد الولاية القضائية للنظر في القضية إلى أن اتخذت المحكمة قرارها واستجاب المالك بتقديمه عرضاً للتسوية. بالنتيجة، حصل الربّان على 80 بالمئة من المستحقات وتم ترحيله إلى بلده. واعتُبرت هذه النتيجة حسنة، نظراً لأن هذه السفن كانت جزءاً من أكثر من 200 سفينة تم هجرها في منطقة الخليج خلال السنتين الماضيتين – لكن هذا العدد بدأ يتناقص.

تأسست منظمة "مهمة من أجل البحّارة" في عام 1830 على يد القسّ جون آشلي. يُحكى عن آشلي أنه بينما كان يتمشى في أحد الأيام مع ولده على رصيف ميناء بريستول في المملكة المتحدة، سأله ولده: "من يهتم بشؤون البحّارة ويرعاهم هناك في البحر؟" كونه رجلاً يتصف بقيم ومبادئ عصره الفيكتوري ويتمتع بروح ريادة المشاريع، اشترى آشلي سفينة وحولها إلى مركز رعاية يجوب البحار ويزور السفن الأخرى لتقديم الدعم المعنوي وغيره لطواقمها. وسرعان ما حظي المشروع بترحيب كبير وبدأ بالتوسع. أسسنا حضوراً لنا في الشرق الأوسط لأول مرة منذ 130 عاماً، واليوم لدينا نحو 1,500 موظف ومتطوع حول العالم. ونحن نعتمد كلياً على التبرعات التي تأتينا من الأفراد، ورعاية الشركات والتركات، بالإضافة إلى حملات التبرع.

أحب أن أفكر بأن المنظمة ساهمت في إحداث تغيير دائم. تاريخياً، كنا الجهة التي تذكّر باستمرار قطاع الملاحة والشحن البحري بضرورة رعاية أهم أصولهم وهي طواقم البحّارة، وقد سعينا من خلال حملات كسب التأييد إلى توفير حقوق وحماية أفضل لهم، كما مارسنا الضغط على الدول في هذا المجال متى ما استطعنا. والأهم من كل ذلك هو أن البحّارة يدركون أنهم إذا واجهوا مشكلة ولم تقم الجهات الحكومية أو ربّ العمل بمساعدتهم على حلها، يمكنهم دائماً أن يقصدونا، لعلنا نساعدهم.

أما فيما يتعلق بأهدافنا المستقبلية، فأود أن أرى أعداد السفن المهجورة بطواقمها تتراجع، وأن تصبح عمليات التسوية سريعة عندما تحصل مثل هذه الحالات، وأن يرتفع أيضاً مستوى تدريب المهارات للبحّارة، وأن يتم الاعتناء بهم ورعايتهم بشكل أفضل. أعتقد أننا إذا نجحنا في تحقيق هذه الأهداف، سنكون قد فعلنا خيراً كبيراً.

ما تعلمته مع مرور الأعوام هو أن الضعف لدى الإنسان يضعه في حلقة مفرغة. فإذا كنت بحاراً ولم تكمل تحصيلك العلمي، وتنتمي لدولة نامية وتحصل على أجر متدني، فغالب الاحتمال أنك ستحصل على عمل على متن سفينة قديمة معرضة للمخاطر وأن تُهجر أنت وزملاؤك يوماً ما. إن اللغة المشتركة في قطاع الشحن العالمي هي الإنجليزية. إذا لم تكن قادراً على قراءتها، فلن تتمكن من معرفة شروط عقد عملك أو أن تحمي حقوقك وفقاً لبنوده. إنه تتابع من المواقف غير المواتية التي تزيد تعرض البحّار للمخاطر. أرى أن جزءاً كبيراً من عملنا يتمحور حول مساعدة البحّارة على التواصل مع الجهات الحكومية وقطاع الشحن البحري من خلال أجهزة الإعلام، وكسب الرأي دعماً لحقهم في العمل الآمن والهجرة. — PA