اللاجئ الناكر للجميل

في هذا المقتطف من مذكراتها الحاصلة على العديد من الجوائز، تروي الكاتبة دينا نايري تفاصيل رحلتها الشخصية من إيران إلى الولايات المتحدة، وتدعو إلى إعادة النظر في الأسلوب الذي نتحدث فيه عن اللاجئين.

في مخيمات اللاجئين، القصص هي كلُّ شيء. فكل شخص هناك لديه قصة تروي تفاصيل هروبه للتو من قبضة كابوس. والجميع أيضاً في حالة من السكون، من دون إذن للعمل أو إمكانية للهرب، يحاولون التعامل مع مكان جديد في العالم. كما أن الجميع غرباء وبحاجة إلى من يُعرّفهم على المكان. الشاي رخيص الثمن. وهل هناك أفضل من هذه الظروف لإعداد إبريق من الشاي والجلوس على وسائد حول طاولة منخفضة الارتفاع والاسترسال في الحديث؟

على مدى عقدين من الزمن، كان هروبنا يحدد معالمي. فقد سيطر على شخصيتي وفرض نفسه على كل قرار من قراراتي. ومع دخولي المرحلة الجامعية، كانت نصف الأحداث في حياتي قد أدت إلى هروبنا، أما النصف الآخر فقد أمضيتها وأنا أعيش تلك الأحداث، في الكنائس والملاجئ، حيث جعلتها والدتي رحلة مبجلة، في طلبات التقدم للكليات عندما كانت تأخذ شكل التماس، وخلال دعوات المبيت خارج المنزل التي كانت تشكل فيها نوعاً من الترفيه، وفي مجموعات المناقشة.

لقد كانت قصتنا خيطاً مقدساً منسوجاً في رداء هويتي. كان الناس يسألونني أحياناً، ألا يعيش الكثير من المسيحيين هناك؟ أو ألا تستطيع والدتك أن تقول فقط أنها مسلمة؟

لقد كنت استغرق الكثير من الوقت لتخطي مثل هذه الأنواع من الأسئلة. فقد كانت تُشعرني كما لو أنني قد حصلت على درجة سيئة، أو كما  لو أنها انتقاد لملامح وجهي وجسدي، أو تفكيكٌ لذلك الخيط المقدس: فأنا بضاعة قد تم إنقاذها ولذلك أشعر بالسعادة ولدي هدف في هذه الحياة. ومع كل عمل جيد أقوم به، فإنني أرد الجميل لهذا الكون. وإذا لم أكن كذلك، فسأكون شخصاً مجهولاً، شخصاً عادياً يكدح ويتعب من أجل ماذا؟ من أجل الأمور التافهة عديمة الروح التي تسعى وراءها الطبقة المتوسطة؟

أذكر جيداً المرة الأولى التي قمت فيها برواية قصتي في مكتب للجوء في إيطاليا: كم كان ذلك قاسياً. فمع العرق وغبار رحلة الهروب اللذين كانا لا يزالان عالقين على حواجبنا، كان علينا تحويل محنتنا إلى قصة جيدة ومقنعة أو المخاطرة بأن نعود من حيث جئنا. وبعد أن نجحنا في تأمين اللجوء، كان علينا أن نعيش تلك القصة مراراً وتكراراً، من أجل استحقاق مكانتنا وطمأنة المتشككين. في كل يوم من حياتها الجديدة، يُطلب من اللاجئة أن تميّز نفسها عن تلك الانتهازية، المهاجرة لأسباب اقتصادية.

image title
تم إنقاذ هذه الطفلة التي تبلغ من العمر ستة أيام فقط بينما كانت أسرتها تحاول عبور البحر الأبيض المتوسط. الصورة: هانا والاس بومان/ أطباء بلا حدود.

كمعظم اللاجئين، وبعد المرور بتجربة هروب تهدد الحياة، كنتُ وعائلتي ملتزمين بالقوانين ونشعر بالسعادة والامتنان. لكننا أصبنا بالأذى. وإذا كان العقل الرشيد عبارة عن طريق نظيفة، كانت طريقنا مليئة بالحفر وبجيوب من الذعر والخوف. نعم، باستطاعتي العثور على الفرح والمنطق والتغيير. لكن كلمة واحدة مؤذية كانت كفيلة بأن تزعجني ليوم أو حتى لأسبوع، وتجعلني أشك في قيمتي وفي مكاني الجديد في هذا العالم. فهل أنا لاجئة حقيقية؟ كان التلميح مؤلماً جداً.

لماذا يرسخ الأشخاص المولدون في البلد هذا التمييز؟ لماذا يؤذون المستضعفين بتهديدات الوصم؟ لقد استغرقتني عقود كي أدرك أنها غريزة الحماية من المنافسة من جموع من الناس تتميز بالموهبة. لرسم خط حول الحق المكتسب بالولادة واعتباره امتيازاً.

على عكس المهاجرين لأسباب اقتصادية، لا يتمتع اللاجئون بقدرة مستقلة لتنفيذ إرادتهم، ولذلك فإنهم لا يشكلون أي تهديد. ففي الكثير من الأحيان، يكونون محطمين لأبعد الحدود، إنهم يتوسلون لإعادة بنائهم على صورة السكان المحليين. وقد يكونون موضع شفقة كأشخاص متلقين لنبل وكرم الآخرين. لقد كنت مهاجرة حظيت بالقبول، لأنني حفظت هذه العبارات بداخلي: أنا بضاعة قد تم إنقاذها. سأثبت ذلك، وأرد الجميل وأتغير. لكنك إذا ولدت في دولة من دول العالم الثالث، وتجرأت على الإقدام على خطوة قبل أن تتحطم، فإن أحلامك تكون محطاً للشبهات. فأنت وصولي وانتهازي ولص. كما أنك تتعدى حدودك.

ما هو الهروب في مثل هذه الظروف، وما هي الهجرة الانتهازية؟ من هو اللاجئ الحقيقي؟ يجعلني هذا المفهوم أضحك في نفسي، هذا المفهوم القائل بأن "اللاجئ" ينتمي لفئة مقدسة، شعب يتقدس بالهروب من الجحيم. وبالتالي، لا يمكن للاجئين الإقرار بمقدار ذرة واحدة من الفرح الباقي فيهم، وإلا فإنهم يخاطرون بأن يصبحوا مهاجرين مرة أخرى.

"في كل يوم من حياتها الجديدة، يُطلب من اللاجئة أن تميّز نفسها عن تلك الانتهازية، المهاجرة لأسباب اقتصادية".

تعد إيران الحديثة بلداً للاجئين يكتفون بقدر قليل من الفرح، منفيين من جنة ما قبل الثورة التي كنا نعرفها. ومع انتهاء حرب العراق، غالباً ما يتم النظر إلى محنتهم بأنها ليست مأساوية بما فيه الكافية. فالوضع في سوريا أشبه بالجحيم. وكذلك الحال في أفغانستان وجنوب السودان وإريتريا. والوضع في العراق ...أقل قليلاً من ذلك؟ لكن ماذا عن إيران؟ ما هي المستويات الكافية من المعاناة التي تجعل الغرب يشعر بالمسؤولية، ليس فقط كمقترفين للكثير من الجنون، ولكن كمستفيدين أساسيين من خيرات هذا الكوكب، الذين يجلسون خلف الشاشات، يراقبون متشككين، في الوقت الذي يعاني فيه الغرباء؟

في أثناء ذلك، نقوم باختيار أقل البيروقراطيين موهبة وأكثرهم استهتاراً ليكونوا أصحاب الكلمة الأخيرة في هذه الحقيقة المعقدة، ولا نطلب منهم إنقاذ الأرواح، أو البحث عن المُرهقين واليائسين، وإنما اقتلاع جذور الأكاذيب، وحماية استحقاقاتنا الدسمة والفضاء الخاص بنا بأي ثمن أخلاقي - إنه الفشل في القيام بالواجب.

إن أكثر ما يثير الغضب هو كلمة "الانتهازية"، إنها كذبة ابتدعها ذوو الامتيازات لجلب العار للغرباء المعذبين الذين يتوقون إلى القليل من مذاق الحياة الكريمة. أنها الآمال التي يشعر بها أطفالهم ويسمونها عندئذ "الحماس" و "الدافع".

وبينما نتذمر بشأن ما نستحقه وما يمكننا الحصول عليه، ينتظر اللاجئون عند الباب. إنهم رسّامون وجرّاحون وحرفيون وطلاب. أطفال وأمهات. الجار الذي صنع صلصة طيبة المذاق. والفتاة الخفيفة الظل في حصة العلوم. والصبي الذي يتقن الرقص. العم المتقدم في السن الذي يسلك دائماً الطريق الخطأ. إنهم يتحملون جميع هذه التحولات المؤلمة، ينهضون من الموت ويتخلصون من وجوههم وأجسادهم وهوياتهم من دون الحصول على ضمانات بالحصول على أخرى جديدة.

والآن وبعد انقضاء ثلاثين عاماً أصبح لدي الكثير لأقوله. لم يعد العالم يتحدث عن اللاجئين كما كان يتحدث عنهم عندما أصبحت لاجئة. لقد بات الخطاب عدائياً، بل مشوشاً. وأصبحتُ، وسط الجحافل الغاضبة، أواجه صعوبة في العثور على النفوس الطيبة التي طالما عرفناها: الأمريكيون والإنجليز والإيطاليون الذين قدموا لنا المساعدة وكانوا يمسكون بأيدينا. أعلم أنهم ما زالوا موجودين.

ما الذي تغير خلال ثلاثة عقود؟ لقد باتت إعادة صياغة المشهد أمراً واجباً. أرغب في فهم رد فعل العالم تجاهنا، وفهم الأزمة السياسية والتاريخية التي تسببت فيها مصائبنا. أشعر بالمسؤولية، فقد عشت كأميركية لسنوات وقرأت الكتب الغربية. لقد كنت مسلمة ومسيحية. ولدي أسرارٌ يمكنني الكشف عنها للسكان المحليين لا يجرؤ القادمون الجدد على رفع الستار عنها. كنت أرغب في البوح بها على مدى ثلاثين عاماً ولا أزال أجد ذلك الأمر مرعباً حتى اللحظة.-PA