بناء الجسور

يتحدث ألكساندر مارس، المؤسس والرئيس التنفيذي لمؤسسة ’إبيك‘ الخيرية عن رحلته في التحوّل من رجل أعمال ناجح إلى رائد عطاء يتبنى نهجاً استراتيجية في عمل الخير وعن أهمية تمكين الجيل القادم من أجل تحقيق تغيير إيجابي مستدام.

يُظهر استعراض مسيرتي المهنية أن الثابت الوحيد فيها - كرائد أعمال - هو التطوّر. فريادة الأعمال تتطلب تطوراً دائماً على الصعيدين الشخصي والمهني، إذ أننا لطالما نُجبَر على الدخول في حالة من التكيّف المتواصل والارتجال من أجل الصمود والاستمرار في ميدان الأعمال. وهذا التطور يتطلب منا أن نتحلى بالتواضع لتجربة شيء جديد والقدرة على قيادة فريق وسط حالة من عدم اليقين والفضول الأرعن الذي يدفعنا للمخاطرة والقيام بما لا يجرؤ غيرنا على القيام به.

بدأت مشروعي الأول عندما كنت في السابعة عشرة من عمري. كنت أنظم حينها الحفلات الموسيقية في باريس. وبالأموال التي جمعتها من أرباح الحفلات، بدأت بشراء أجهزة كمبيوتر ومن ثم أطلقت وكالة الويب A2X. شهدت تلك الفترة بداية انتشار الإنترنت، وكنا نحن أولئك المجانين الذين يحاولون إقناع الجميع بأنهم بحاجة لإنشاء موقع على شبكة الإنترنت.

كنت في ذلك الوقت في العشرين من عمري، بلحية وشعر طويل، وكنت مقتنعاً تماماً أننا سننجح، ولكن بعد كل تلك الجهود االمضنية، لم يتصل بنا أي شخص.

يشتهر فينس لومباردي، مدرب كرة القدم الأمريكية الأسطوري، بهذه المقولة التي وجهها لفريقه، حيث قال: "إذا كنتم تريدون حقاً الفوز بمباراة ما، فعليكم أن تنزلوا إلى الملعب". هذا بالتحديد ما أدركته من خلال عملي في A2X - أن ريادة الأعمال تعني أن يتواجد المرء في الميدان. فلن يقوم أي شخص بالاتصال بك لإنشاء موقع له على شبكة الإنترنت إذا لم يكن يدرك أنه بحاجة إليه، ولن تبقى أبواب شركتنا مفتوحة ما لم يكن لدينا عملاء.

ولذلك، نزلت إلى الميدان. أجرينا مكالمة تلو الأخرى. لقد كانت بداية صعبة، لكننا تمكنا من وضع الشركة على مسار النجاح ومن ثم قمنا ببيعها في النهاية إلى وكالة أخرى. ومنذ ذلك الحين، بقيت في الميدان، وأصبح الميدان بالنسبة لي - كرائد أعمال - بمثابة بيتي.

"كان المانحون ورواد العمل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم يعبرون لي عن مدى صعوبة التواصل فيما بينهم".

في تلك الأيام الأولى، ربما كانت عبارة "إنها معقدة" المستخدمة لوصف حالة الشخص على الفيسبوك أفضل ما يمكن قوله لتوضيح علاقتي بالمحاولات التي كنت أقوم بها لصنع فرق في العالم. فخلال فترة دراستي الثانوية ومن ثم في الجامعة، كنت أشعر دائماً بالحيرة بين ما كنت أعتبرهما مجالين منفصلين. ففي تلك الفترة، أصبحت أكثر انخراطاً في رد الجميل للمجتمع وفي الوقت نفسه كنت اكتشف أنني امتلك مهارة حقيقية في مجال الأعمال.

فكرت إذا كان المسار الصحيح بالنسبة لي هو الدخول مباشرة في مجال العمل في السياسة أو في مؤسسة غير ربحية، أو القيام عوضاً عن ذلك باختبار شغفي الناشئ وموهبتي في مجال الأعمال.

في النهاية اخترت المسار الثاني إذ قررت أن أصبح رائد أعمال لخمس سنوات من أجل كسب المال والتعرف على الأشخاص الذين سأحتاج إليهم لتعظيم الأثر الذي يمكنني إحداثه.

لكن في الواقع، لم يستغرق هذا الأمر خمس سنوات بل عشرين سنة. وبعد عقدين من الزمن أصبحت زوجاً وأباً لثلاثة أطفال رائعين. والآن وبينما أنا بصدد بيع شركتيّ الناشئتين  - الرابعة والخامسة، بدأت أفكر بما علي القيام به بعد ذلك.

بات من الجلي أن ما أريد أن أقوم به الآن ليس كوني رائد أعمال فقط وإنما أب ومواطن عالمي أيضاً، ومن هنا كان علي أن أتطور مرة أخرى. وبعد أن أمضيت العشرين سنة الماضية في مجال التكنولوجيا، قررت لأول مرة دخول مجال جديد والانتقال من وادي السيليكون إلى عالم التأثير الاجتماعي.

قررت أن تكون شركتي الناشئة السادسة في القطاع غير الربحي. كان التحدي الذي واجهته آنذاك هو كيفية حوض مجال جديد في سن الخامسة والثلاثين. ما الفرق الذي يمكنني تحقيقه بالفعل؟

في ذلك الوقت، لم أكن أعرف أي شيء تقريباً عن العطاء والعمل الخيري أو المنظمات غير الربحية أو المؤسسات الاجتماعية أو الرصد أو أي من الأشياء الرائعة الأخرى التي سأتعلمها عن القطاع الاجتماعي في السنوات القادمة.

مع ذلك كنت أعلم من خلال حدسي كرجل أعمال أن الخطوة الأولى هي فقط النزول إلى الميدان. ولذلك بدأت في طرق الأبواب وإجراء أبحاث السوق. كنت أذهب إلى المؤسسات والمنظمات غير الربحية الواحدة تلو الأخرى وأقول لهم: "مرحباً، أريد أن أقوم بعمل خيري ولكنني لا أعرف ما هو بالتحديد".

لم يحظ كل اجتماع قمت به بالنجاح، ولكنني تعرفت على أشخاص رائعين أخذوا بيدي وعرفوني على المزيد من الأشخاص.

استمرت هذه الرحلة من المناقشات والأبحاث على مدى ثلاث سنوات كنت خلالها أنهي أعمالي في شركتي الناشئتين. ومع اقتراب إنهاء صفقتي البيع، كانت الضغوطات تتزايد بسرعة من أجل إيجاد سبيل للانتقال من حياتي كرجل أعمال في مجال التكنولوجيا إلى حياة جديدة كرائد أعمال اجتماعي. وكانت النتيجة خروج مؤسسة ’إبيك‘ الخيرية إلى النور.

image title
يقول مارس أننا بحاجة إلى الاستثمار في شبابنا كي نتمكن من حل التحديات العالمية.

بعد بيع الشركتين، قررتُ وزوجتي فلو سحب أطفالنا الثلاثة من مدرستهم لمدة فصل دراسي حتى نتمكن من السفر سوياً حول العالم كعائلة واحدة. لقد استخلصت من هذه الرحلة التي زرت فيها 15 دولة مدى أهمية تقديم الدعم للجيل القادم. فخلال سفرنا برفقة أطفالنا، التقينا بأسر من مختلف أنحاء العالم وشاركناها حياتها.

لكن ما بدا بكل وضوح بالنسبة لي هو أن التحديات التي نشعر بالقلق الشديد حيالها جميعاً اليوم ستواجه أطفالنا بالكامل في المستقبل. ولحل هذه التحديات العالمية الكبرى، كان علينا الاستثمار في الجيل القادم من قادة العالم: أطفالنا وشبابنا في مختلف أنحاء العالم.

أثناء رحلتنا، واصلت أبحاثي الشخصية في مجال العطاء والتأثير الاجتماعي. في كل مكان ذهبنا إليه كنت أتحدث مع رواد العطاء الذين يتطلعون لإحداث تأثير إيجابي والفِرق التي تعمل كل يوم لصنع فارق على أرض الواقع. ومع اقتراب الرحلة من نهايتها، أصبح من الواضح بشكل متزايد بالنسبة لي مدى عمق الهوة بين هاتين المجموعتين.

ومن المفارقة أنه على الرغم من أننا نعيش في عصر الفيسبوك الذي ييسر التواصل الفوري والمستمر بين الناس، إلا أن المانحين ورواد العمل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم كانوا يعبرون لي عن مدى صعوبة التواصل فيما بينهم.

من جهة، لدينا هذه المنظمات الرائعة ورواد المشاريع الاجتماعية المميزين الذين يقضون أيامهم في العمل لحل أكثر التحديات الاجتماعية إلحاحاً لكنهم في المقابل يواجهون صعوبات في الوصول إلى التمويل والخبرات والعلاقات التي يحتاجون إليها.

خذ على سبيل المثال، الرئيس التنفيذي لإحدى المنظمات غير حكومية المختصة بالزراعة في أفريقيا الذي يقضي 90 بالمئة من وقته في السفر بين نيويورك وسان فرانسيسكو بحثاً عن متبرعين في حين تتم عمليات منظمته برمتها في قارة أخرى.

من جهة أخرى، لديك رواد عطاء وشركات يملكون الكثير من الموارد المالية ويتمتعون بشبكة علاقات قوية ويريدون القيام بالمزيد من أعمال الخير ولكنهم يواجهون صعوبة في إيجاد من يثقون به وفي كيفية التواصل والتعامل مع المنظمات التي يقدمون الدعم لها.

هذا النوع من القصور في السوق هو بالتحديد ما كنت أبحث عنه كرائد أعمال. فقد كنت أبحث عن فجوة واضحة تؤكد الحاجة إلى مؤسسة جديدة تعمل على ردمها.

وكان الخبر الجيد أنه كان لدينا بالفعل الكثير من الأشخاص المُهمين والراغبين حقاً بإحداث الفرق وكل ما كان علينا فعله هو ربطهم ببعضهم البعض.

image title
تبحث مؤسسة ’إبيك‘ الخيرية عن المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الاجتماعية المؤثرة التي تتصدر جهود الحد من الفقر.

تتمثل مهمة مؤسسة ’إبيك‘ الخيرية في سد الفجوة بين أولئك الذين يتطلعون لتقديم المزيد من العطاء من جهة والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الاجتماعية الشديدة التأثير التي تعمل على تمكين الأطفال والشباب على مستوى العالم من جهة أخرى. نحن نتطلع إلى خلق فرص للجميع لتقديم المزيد من العطاء وبذل المزيد من الجهود لدعم الجيل القادم، ومساعدة أطفالنا وشبابنا على الاستعداد لتغيير عالمنا إلى الأفضل.

يحقق فريقنا ذلك من خلال تصميم وتوفير خدمات وتطبيقات تكنولوجية جديدة وفريدة من نوعها تمكّن الأشخاص الذين يتطلعون لتقديم المزيد من العطاء من الشعور بالثقة بأنهم قادرون على اختيار مؤسسات موثوقة لتوجيه دعمهم لها، وأنه بإمكانهم بالفعل رصد النتائج التي تحققها المنظمات التي يدعمونها ولمس هذه النتائج على أرض الواقع.

فضلاً عن ذلك، أقوم بتغطية التكلفة التشغيلية الكاملة لمؤسسة ’إبيك‘، مما يتيح توجيه تبرعات الأشخاص والشركات الأخرى بالكامل إلى المنظمات التي يتم اختيارها للانضمام إلى محفظتنا.

وفي كل عام، نطوف العالم بحثاً عن أفضل المنظمات التي تعمل على تمكين الأطفال والشباب لربطها بشبكتنا العالمية من رواد العطاء والشركات ممن يرغبون بالعطاء بأسلوب أكثر استراتيجية. ومن أجل تحديد المؤسسات الأكثر تأثيراً في هذا المجال، قام فريقنا بإنشاء شبكة جديدة في جميع أنحاء العالم تضم مجموعة رائدة من المؤسسات الخيرية والممولين ومراكز الفكر. لقد مكننا ذلك من تحديد الطلبات واستلامها من أكثر من ألف منظمة من 85 دولة في عام 2015.

من الأحياء الفقيرة في البرازيل إلى ضواحي باريس وصخب نيويورك وسان فرانسيسكو ووسط أوغندا والمناطق الفقيرة في مومباي وضواحي لاوس، بحثنا عن أفضل 20 مؤسسة غير ربحية واجتماعية من حيث الموثوقية والابتكار والتأثير.

"ليس من المبكر جداً أو المتأخر جداً أن تجد الفرصة المناسبة لك بنفسك".

في الوقت نفسه، ومن خلال دمج شغفي بريادة الأعمال والتكنولوجيا مع أفضل العقول في القطاع الاجتماعي، فإننا نستكشف أفاقاً جديدة تتعلق بكيفية رصد المانحين للمنظمات التي يقدمون الدعم لها واختبار تأثيرها.

لدينا فريق رائع من مانهاتن إلى لندن وبانكوك يعمل جنباً إلى جنب مع المنظمات لضمان تحقيق التقدم نحو الأهداف الاجتماعية المتفق عليها في الوقت الذي نقدم فيه للمانحين المزيد من الرؤى الثاقبة والآنية حول المنظمات التي يدعمونها.

يساعد هذا النهج الجديد في إطلاق الموارد التي تشتد الحاجة إليها، وبناء جيل جديد من رواد العطاء الأكثر ذكاءً والتزاماً.

خلال هذه الرحلة، تعلمت أن لدينا جميعاً كميات متفاوتة من الأشياء الثلاثة ذاتها لنقدمها: مهاراتنا ومواردنا وشبكة علاقاتنا.

إن مفتاح العثور على التأثير الفريد الذي يمكنك إحداثه في العالم هو معرفة كيف يمكنك الاستفادة من مهاراتك وشبكتك علاقاتك ومواردك الحالية لإحداث الفرق. ليس من المبكر جداً أو المتأخر جداً أن تجد الفرصة المناسبة لك بنفسك. -PA

اقرأ المزيد