حقول الموت في أفغانستان

عقود من الصراع الدموي في أفغانستان خلّفت وراءها العديد من المآسي من بينها ما تركته الحرب من قنابل وذخائر حية ومناطق شاسعة مزروعة بالألغام. تعمل منظمة هالو ترست منذ 30 عاماً في هذا البلد على تفكيك الألغام وإتلاف ملايين القذائف والذخائر التي يمكن أن تتفجر في أي لحظة، حتى بعد مرور عقود من الزمن على توقف القتال. في مقالته هذه يقول الدكتور فريد همايون، مدير هالو ترست في أفغانستان، أن المنظمة ما تزال بحاجة إلى الدعم والتمويل لإكمال مهمتها الطويلة.

لدينا قول مأثور في اللغة الدارية مفاده أننا سلخنا البقرة كلها إلا ذيلها. لقد بقي الذيل فقط. عملية إزالة الألغام في أفغانستان تشبه ذلك، فقد تم إنجاز 80 بالمئة من العمل، أي أننا قطعنا شوطاً طويلاً في مهمتنا، لكن يتوجب علينا الآن إنهاءها بشكل كامل. في أي صراع مسلح، تستخدم الفصائل المتنازعة مختلف أنواع الأسلحة المتوفرة لها ضد بعضها البعض. فهناك القنابل وقذائف المدفعية وحتى الألغام اليدوية الصنع، لكن وكما هو معروف، فليس كل ما يتم إطلاقه أو إسقاطه من الجو ينفجر، وبالتالي تحولت هذه المساحات الواسعة من الأرض التي شهدت الصراع إلى مناطق خطرة بل مميتة لسكانها العائدين إلى مساكنهم وأراضيهم بعد توقف القتال فيها. 

واليوم يصل عدد ضحايا الألغام والعبوات غير المنفجرة في أفغانستان إلى ما معدله 180 مدنياً كل شهر. وتعود بعض هذه الألغام إلى أزمنة الصراعات السابقة، مثل الغزو السوفييتي والحروب الأهلية، وبعضها حديث تزرعه جماعات المعارضة المسلحة. وتتميز كل حقبة من تلك الحقبات بعبواتها الناسفة وألغامها الخاصة، لكن أثرها مجتمعة كبير جداً. 

تشكل الزراعة حوالي 70 بالمئة من الدخل الوطني في أفغانستان، لكن الألغام تعيق المزارعين عن العمل في أراضيهم، فضلاً عن الأضرار التي تلحقها في البنية التحتية وأثرها السلبي على مشهد التعليم، وبالطبع على المدنيين الذين يقتلون أو يتعرضون لتشوهات أو جروح. فتتسبب هذه الألغام في فقدان عائلات لمعيلها الوحيد، كما تدفع أحياناً السكان إلى النزوح من قرى بأكملها، ما يجعل تأثيرها بالغ الخطورة على المجتمعات المحلية.

تأسست منظمة هالو ترست في أفغانستان في العام 1988، عندما كانت البلاد ما تزال تحت وطأة الاحتلال السوفييتي، وكانت العاصمة كابول ترزح تحت الحصار. كنت حينها أتابع دراسة الطب في ظروف معيشية صعبة، إذ كانت الكهرباء نادرة وفرص العمل قليلة. لكن الريف الأفغاني كان الأكثر تضرراً من الحرب والاقتتال، كما كان مزروعاً بالألغام على نطاق واسع. 

بدأت منظمة هالو عملها في مجال التوعية بمخاطر الألغام انطلاقاً من العيادات الصغيرة المختصة بصحة الأمهات والأطفال في كابول. هناك كنا نرى أطفالاً مصابين بحروق بالغة، ونساءً وأطفالاً مبتوري الأرجل، والكثير من الإصابات المروعة، وباعتباري طبيباً، فأنا أعلم أن الوقاية خير من العلاج.

كانت أفغانستان أول بلد ينطلق منه برنامج منظمتنا لإزالة الألغام، ثم بدأنا برنامجاً آخر في كمبوديا، ومع مرور الوقت أصبحت هالو ترست أكبر منظمة إنسانية لإزالة الألغام في العالم.

تعمل هالو ترست على تنظيف ما يتراوح بين 25 إلى 28 كيلومتراً مربعاً من حقول الألغام كل عام في أفغانستان، إضافة إلى ملايين الأمتار المربعة من ساحات المعارك، ما يعادل تفكيك عدة مئات من الألغام وإزالة نحو 100 طن من الذخيرة الحية شهرياً. كما نواجه تحدٍ آخر يتمثل بوجود مناطق واسعة مزروعة بالألغام المضادة للمركبات، وهذه يصعب اكتشافها. 

إزالة الألغام ليست علماً معقداً لكنها تحتاج الكثير من اليد العاملة، إذ تتم عملية الكشف عن الألغام متراً بمتر بشكل يدوي، ثم تُعزل وتدمر. إنها مهمة محفوفة بالمخاطر، لكن إذا خضع العامل للتدريب الصحيح والكافي، وارتدى معدات الحماية اللازمة، فليس الأمر أكثر خطورة من العمل في إنشاء الطرق. وقد تقع بعض الحوادث، لكنها نادرة في العموم. 

عملنا مكلِف بشكل عام، فميزانيتنا السنوية تتجاوز 22 مليون دولار، يذهب حوالي ثلثيها كرواتب لعمال تفكيك الألغام. لكن بمجرد مسح الأراضي وإزالة الألغام منها وتنظيفها ترتفع قيمتها. نعمل أحياناً على مسح بعض الأراضي بكلفة 0.40 دولاراً للمتر المربع الواحد، وهذا سعر رخيص جداً. لكن بمجرد أن يتم إخلاء قرية ما من الألغام، تتحسن الحياة فيها بشكل كبير، إذ ما تلبث أن تبدأ فيها عمليات بناء الطرق والبيوت وتزدهر الأعمال التجارية وتتزايد مداخيل الناس.

image title image title
تم تطهير نحو 80 بالمئة من المواقع الخطرة من ألغامها ومتفجراتها، لكن لا يزال أمامنا المزيد من العمل.

"تخلق عملية إزالة الألغام وظائف لآلاف الشباب العاطلين عن العمل في سن القتال، والذين قد يكونون حطباً لنار الحرب".

image title
تم تسجيل ما يزيد عن 23,500 إصابة جراء انفجار الألغام خلال الفترة الممتدة بين عامي 1979 و2015، وفقاً لمنظمة هالو ترست.

أهم جانب في عملنا هو حرصنا على الحياد، فبدون دعم المجتمع، لا يمكننا العمل. ونحن نعتمد على الأفغان في كل نشاطاتنا هنا، ولدينا حالياً أكثر من 3,300 موظف غالبيتهم العظمى من الأفغان. ونوظف العمال من المجتمعات المتأثرة بالألغام والتي غالباً ما تكون نائية ومهمشة، حيث مستويات التوظيف والدخل والتعليم متدنية.

يعد مجلس الشورى الجسم الأبرز في النسيج الاجتماعي في أية قرية، لذا نحن نتوجه إليهم ونحدثهم عن عملنا ومعاييرنا، ونطلب مساعدتهم في البحث عن أشخاص غير منخرطين في النزاعات، ولم يرتكبوا جرائم وليسوا مدمنين على المخدرات. ويرشح لنا مجلس الشورى العمّال المناسبين الذين يحظون باحترام الجميع، حتى جماعات المعارضة المسلحة.

تعد مهمة إزالة الألغام في الثقافة الأفغانية من تخصص الرجال، ويخضع العمّال من أجل هذه المهمة لدورة تدريبية مدتها أربعة أسابيع يصبحون بعدها جاهزين للعمل الميداني. ندفع لكل عامل 300 دولار في الشهر، كما نعلمهم القراءة والكتابة وندربهم على الإسعافات الأولية، وهذا يمكن أن يصبح مصدراً آخر للدخل بالنسبة لهم. بهذه الطريقة، تخلق عملية إزالة الألغام وظائف لآلاف الشباب العاطلين عن العمل في سن القتال، الذين قد يكونون حطباً لنار الحرب. وبما أن الفقر يساهم في تكريس حالة عدم الاستقرار، لذلك فإن القضاء عليه أمر حاسم من أجل تحقيق السلام والاستقرار في أفغانستان.

ما تزال أفغانستان إحدى أكثر البلدان المزروعة بالألغام في العالم. فمن بين 400 منطقة إدارية، هناك 250 منطقة تعاني من وجود حقول ألغام في أراضيها. 

التحديان الرئيسيان اللذان نواجههما في إكمال مهمتنا هما: التمويل والأمن. للأسف، إن التمويل آخذ في التراجع، لأن المانحين يحوّلون أموالهم للتخفيف من مآسي صراعات أخرى في الشرق الأوسط، وفي أماكن أخرى من العالم، ومن ناحية أخرى ما تزال هنالك حقول ألغام لا يمكننا النفاذ إليها لأسباب أمنية وحفاظاً على سلامة العاملين. تعتبر مهمتنا لإزالة الألغام في أفغانستان ناجحة لغاية اليوم بفضل الله، لكننا بحاجة إلى المزيد من الدعم لاستكمالها. 

هناك قصة حقيقية أريد أن أرويها. قبل خمسة عشر عاماً زرت قرية بالقرب من الحدود مع طاجيكستان، وكانت مزروعة بالألغام بشكل كثيف. كان مسجد القرية مدمراً، ولم يبق فيها سوى عدد قليل من الناس. قمنا بتطهير الأرض ثم حفرنا بئراً لهم، ودفعنا أجور ترميم المسجد. بعد عامين عدت لزيارة القرية، فلم أعرفها! كانت تعج بالناس وهم مشغولون بأعمالهم، وبقطعان المواشي. رأيت أطفالاً يجلسون تحت ظلال الأشجار. فعدت بذاكرتي للمآسي التي كانوا يواجهونها قبل عامين؛ لقد تلاشت كلها وأصبحت حياتهم طبيعية الآن، وعاد التفاؤل بالمستقبل إلى نفوس هؤلاء الناس من جديد. كان أثر هذا المشهد عظيماً، وفرحتي لا توصف. إن البهجة التي أراها في وجوه الناس من جراء عملنا هذا هي ما يشجعني على المواظبة والاستمرار. – PA

اقرأ المزيد