الأموال المضرجة بالدماء

العبودية صناعة تصل قيمتها إلى 150 مليار دولار ويتم بناؤها على بؤس بني البشر ومعاناتهم. يقول نيك غرونو، الرئيس التنفيذي لصندوق الحرية أنه مع تأييد عدد أكبر من الأشخاص الكفاح ضد العبودية، يمكننا – بل يتوجب علينا – القيام بالمزيد لمساعدة ما يقدر بنحو 40 مليون رجل وامرأة وطفل من ضحايا العبودية في جميع أنحاء العالم اليوم.

توجد العبودية بيننا منذ آلاف السنين، فهي موثقة على الألواح المحفورة منذ 4,000 عام. وفي حين أنه من دواعي الارتياح والرضا الاعتقاد بأنها من مخلفات التاريخ، إلا أنها وللأسف ليست كذلك. وعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلها المناهضون للعبودية في الماضي، إلا أن هذه الممارسة لا تزال قائمة في كل دولة من دول العالم، بل هي في ازدهار في العديد منها.

ومع أن العبودية محظورة في جميع أصقاع الأرض، إلا أن ما يقدر بنحو 46 مليون شخص على مستوى العالم ما زالوا يعانون من العبودية اليوم. ويتجلى جوهر هذه الجريمة المروعة في السيطرة على الأفراد من خلال العنف وغيره من أشكال الإكراه من أجل إجبارهم على العمل.

إن العبودية المعاصرة تمس حياتنا جميعاً. فهواتفنا المحمولة تحتوي على معادن غالباً ما يتم الحصول عليها من المناجم الكونغولية التي يعمل فيها الأطفال تحت سلطة الميليشيات. وربما تكون رفوف المحلات في مناطقنا مليئة بأنواع الروبيان والأسماك الرخيصة المستوردة من تايلاند والتي ينتجها المهاجرون البورميون والكمبوديون المستعبدون على قوارب الصيد التايلاندية.

ربما تكون ملابسنا التي نستطيع الحصول عليها بأثمان بخسة قد صنعت على أيدي فتيات من ضحايا الاسترقاق في بنغلاديش، أو تم صنعها من القطن الذي يتم إنتاجه بالعمل القسري في أوزبكستان. وفي المدن التي نقطنها، ربما تتعرض الفتيات والنساء المستضعفات اللواتي يبحثن عن حياة أفضل للخداع ويتم إجبارهن على العمل في بيوت الدعارة، حيث يتعرضن للاغتصاب كل ليلة.

لكن لماذا تتفشى العبودية إلى هذا الحد على الرغم من أنها محظورة في كل دولة من دول العالم؟ الجواب هو أن العبودية المعاصرة تزدهر عندما تتقاطع العوامل الثلاثة التالية: الطلب على العمالة الرخيصة للغاية، وضعف الأفراد وتهميشهم، وضعف سيادة القانون.

إن ازدياد الطلب على العمالة الرخيصة جداً يغذي العبودية ويعززها. بالطبع، لا حرج من الناحية القانونية من السعي للحصول على تكاليف عمالة أقل طالما أن ذلك يتم في إطار القانون. لكن في حالة العبودية المعاصرة يكون الهدف دفع أجور زهيدة للغاية في خرق واضح لذلك القانون.

للأسف، غالباً ما يقدم مرتكبو الجرم مبررات اقتصادية قوية لممارسة العبودية. إنها تسمح للشركات بتقليل تكاليف العمالة بشكل غير قانوني، ما يمكنها من إنتاج سلع وخدمات أرخص وبالتالي زيادة أرباحها إلى أقصى حد. وكما تفيد منظمة العمل الدولية، فإن العبودية تدر أرباحاً سنوية تصل إلى 150 مليار دولار.

كما يعتبر الطلب على المدخلات الرخيصة مدفوعاً باقتصادنا المعولم حيث غالباً ما تمتد سلاسل توريد عبر القارات. وقد يكون لدى الشركات المتعددة الجنسيات خمسة أو ستة مستويات من سلاسل التوريد الخاصة بها: بدءاً بمتجر التجزئة المعروف وانتهاءً بقاطف القطن في أوزبكستان، أو الصياد في تايلاند، أو عامل المنجم في الكونغو.

وتتم ممارسة الضغوطات في كل مستوى من هذه المستويات لتحقيق المزيد من التخفيض في التكاليف، حتى نتمكن نحن المستهلكون في النهاية من شراء قمصاننا بثلاثة دولارات، أو التمتع بوجبة سوشي منخفضة التكلفة أو امتلاك هواتف ذكية أسرع من أي وقت مضى.

من دون شك، لا يؤدي الطلب على العمالة الرخيصة وحدة إلى تفاقم العبودية، فهي تتطلب أيضاً وجود أشخاص ضعفاء يسهُل خداعهم أو إجبارهم على الانخراط في أوضاع استغلالية، فضلاً عن الإخفاق في محاسبة المخالفين للقانون على جرائمهم.

وغالباً ما يأخذ هذا الضعف شكل الفقر. مع ذلك، فإن الفقر وحده ليس عاملاً حاسماً لممارسة العبودية، فالعديد من الدول والمناطق الفقيرة لا تعاني بشكل غير متكافئ من العبودية. لكن عندما يكون الفقر مقترن بانعدام البدائل الاقتصادية، فإن الناس يقدمون على المجازفة خلال بحثهم عن حياة أفضل.

كما يدفع الفقر الناس إلى الانخراط في الهجرة المحفوفة بالمخاطر، ما يعطي المجرمين والمتجرين بالبشر الفرصة لاستغلال رغبة هؤلاء الأشخاص في التمتع بمستقبل أفضل. على سبيل المثال، غالباً ما تتعرض الشابات من أوكرانيا أو مولدوفا للخداع بوعود بحياة أفضل في الدول الغربية. وعلى الرغم من أنهن سمعن الكثير من القصص عن مخاطر الاتجار بالجنس، إلا أنهن يهاجرن في جميع الأحوال على أمل ألا يتعرضن لمثل هذه الأحداث المرعبة.

ويأخذ الضعف العديد من الأشكال الأخرى كالنزاع والنزوح، والطائفة والعرق والجنس والأمية وصفة المهاجر، والتي عادة ما تقترن بالتمييز المجتمعي ضد السمة المختلفة.

كما يتسم المهاجرون واللاجئون بالضعف بشكل خاص. فاللاجئون السوريون يتعرضون للاستغلال الشديد الآن في حقول لبنان ومصانع تركيا، نظراً لحاجتهم الماسة إلى العمل – الذي يتخذ شكلاً غير قانوني في الغالب – وذلك من أجل البقاء على قيد الحياة.

وأخيراً مسألة سيادة القانون، فالقانون الدولي يحرّم العبودية المعاصرة، كما أنها تعد ممارسة غير قانونية في كل مكان في العالم. فضلاً عن ذلك، تعتبر العبودية المعاصرة أمراً بغيضاً من الناحية الأخلاقية. لذا فإن حقيقة انتشارها على هذا المستوى تعني أن هناك إخفاقاً جوهرياً في تنفيذ القانون وفي استيعاب المبادئ المناهضة للعبودية وأشد أشكال الاستغلال. تزدهر العبودية المعاصرة في ظل ضعف سيادة القانون وسوء الحكم، ويتم تيسيرها بالفساد وممارستها من قبل أصحاب السلطة ذوي الممارسات التعسفية.

من جهة أخرى، تتعرض مجتمعات بأكملها في جنوب آسيا للاستعباد الصريح من خلال عبودية الدين ويتم إجبارها على العمل في أفران الطوب أو المحاجر التي غالباً ما تكون مملوكة لشخصيات إجرامية أو سياسية محلية وتتمتع بحماية المسؤولين. علاوة على ذلك، يعيش القصّر في عزلة في المناطق الخطرة في مدن الهند الكبرى حيث تزدهر بيوت الدعارة بسبب عدم اكتراث الشرطة واللامبالاة البيروقراطية في أحسن الأحوال، والاستئثار والهيمنة في أسوئها.

تعد الدول المنكوبة بالنزاعات وتلك التي تعاني من ضعف المؤسسات معرضة بوجه خاص لخطر تعريض مواطنيها لمخاطر العبودية وغيرها من الشرور. فكروا مثلاً في الأطفال المجندين في وسط أفريقيا وفي الاستعباد الجنسي الذي تمارسه داعش وبوكو حرام بحق الفتيات والنساء واستخدام المتمردين والميليشيات الحكومية على حد سواء العمل القسري في استخراج المعادن المؤججة للنزاعات.

كل ذلك يجعل محاربة العبودية المعاصرة مهمة مضنية، لأنه يعني التصدي للنماذج الاقتصادية المهيمنة فضلاً عن التمييز المتجذر والفساد المستشري. إنه ليس بالأمر الهين.

image title
تم لم شمل محمد سلاماد البالغ من العمر 14 عاما مع والده في مأوى مؤقت في مدينة بيرغانج الحدودية في نيبال. وكان محمد في طريقه إلى مومباي للبحث عن عمل قبل أن تقوم منظمة غير حكومية بإنقاذه. الصورة: تم تزويدها.

"إنه لمن العار أن العبودية ما تزال منتشرة في القرن الحادي والعشرين. لكنني أؤمن أننا نستطيع معاً وضع حد لهذه الجريمة ضد الإنسانية".

مع ذلك، هناك ما يدعو للتفاؤل. أولاً، هناك عدد متزايد من القادة السياسيين والدينيين الذين يناصرون هذا الكفاح. لطالما كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما من أشد المناصرين لجهود مكافحة العبودية. كما تعتبر رئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي العبودية "واحدة من أكبر انتهاكات حقوق الانسان في وقتنا الحالي" وأكدت على التزامها "بتخليص عالمنا من هذا العمل الوحشي".

أما في الهند، التي تأوي ما يقدر بنحو 18 مليون شخص مستعبد، فقد أدخلت تشريعات جديدة لمكافحة الاتجار بالبشر لأغراض الجنس والعمل. فضلاً عن ذلك، يعتبر البابا فرانسيس من أشد المؤيدين للجهود المبذولة لمكافحة العبودية والاستغلال.

ثانياً، لقد أصبحت الشركات أيضاً أكثر إدراكاً لوجود العبودية ضمن سلاسل التوريد الخاصة بها. وتشجع تشريعات الشفافية في المملكة المتحدة وكاليفورنيا، والمخاطر المتعلقة بالسمعة، هذه الشركات لاتخاذ إجراءات تتجاوز بيانات حسن النوايا السطحية التي تصدرها.

ثالثاً، لقد بدأنا نشهد  اهتماماً متزايداً من قبل الممولين لدعم جهود التصدي لأشكال العبودية والقضاء عليها. وبالنظر إلى الندرة النسبية للموارد المخصصة حالياً لمحاربة هذه الصناعة الإجرامية العالمية التي تبلغ قيمتها 150 مليار دولار، فهذا بكل تأكيد تطور إيجابي – على الرغم من أن الطريق أمامنا ما تزال طويلة.

رابعاً، شهدنا زيادة هائلة في الصحافة الاستقصائية التي تناولت قضية العبودية، تقودها مؤسسات إعلامية بارزة من أمثال الجارديان وتومسون رويترز وأسوشيتد برس ونيويورك تايمز والجزيرة وغيرها. تزيد وسائل الإعلام هذه من وعي المستهلكين وتمارس ضغوطاً على الشركات والحكومات لتحسين أدائها.

خامساً، تدفع أوجه التقدم في مجال التكنولوجيا نحو المزيد من الشفافية. فالتكنولوجيا تتيح لنا اليوم التواصل مع الأشخاص الذين يقفون وراء منتجاتنا والتعرف على قصصهم بطرق لم تكن متاحة من قبل. كما أنها تعزز التواصل، ما يسمح للمؤسسات والشركات بالاستماع إلى العمال ومساعدتهم على التعبير عن حقوقهم بشكل أفضل.

وأخيراً، تسهم جميع هذه التطورات في رفع وعي المستهلكين بالعبودية والدور الذي تلعبه في تصنيع منتجات مثل الهواتف المحمولة وأزياء الموضة السريعة والمأكولات البحرية المنخفضة التكلفة. فالمستهلكون قادرون على مطالبة العلامات التجارية ومورديها بتحسين أدائهم، وهو ما يشكل حافراً مهماً للتغيير.

إنه لمن العار أن العبودية ما تزال منتشرة في القرن الحادي والعشرين وأن هذا الأذى يطال اليوم كل دولة من دول العالم. لكنني أؤمن أننا نستطيع معاً وضع حد لهذه الجريمة ضد الإنسانية.

لذلك فإنني أدعوكم للانضمام إلى هذه الحركة العالمية المتنامية لمناهضة العبودية حتى نتمكن من استكمال الجهود التي بذلها دعاة إلغاء العبودية الذين سبقونا، وإنهاء كابوس العبودية إلى الأبد. -PA

اقرأ المزيد