ردم الهوة

ترى فومزيلي ملامبو-نكوكا، المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، أنه إذا أرادنا القضاء على الفقر المدقع، فلا بد لنا من التصدي لمشكلة المساواة في الأجور.

تتقاضى النساء في جميع أنحاء العالم أجوراً أقل من الرجال بنسبة 24 بالمئة في المتوسط. غير أن النساء اللواتي يتولين تلك الوظائف والمهام لسن 24 بالمئة أقل كفاءةً أو خبرةً أو تأهيلاً، بل كل ما في الأمر أنهن لسن ذكوراً. إن عدم المساواة في الأجور القائم على النوع الاجتماعي مستمر في كل مكان في العالم، في مختلف الدول والأقاليم والمهن، وهو أمر في غاية الأهمية ولا بد من التصدي له. فهو إجحاف واضح بحق المرأة ويحكم على ملايين النساء وأسرهن بالعيش في فقر مدقع. كما تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين مشكلة عالمية ومنهجية تستدعي تضافر الجهود واتخاذ إجراءات مكثفة من أجل تغيير طريقة تقديرنا لقيمة عمل المرأة ودعمنا له.

من جهة أخرى، يفاقم العرق والخلفية الإثنية هذا التفاوت. وفي الوقت الذي تعاني فيه الدول النامية من ندرة البيانات، تبين البيانات الواردة من الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أنه لكل دولار واحد يكسبه الرجال البيض هناك، تكسب الأمريكيات من أصل أفريقي 0.60 دولار والأمريكيات من الشعوب الأصلية 0.59 دولار واللاتينيات 0.55 دولار فقط.

وبينما تتسبب هذه الفجوة في الأجور بين الجنسين بعواقب واضحة وفورية – إلا أنها تترك أيضاً آثاراً سلبية طويلة المدى على الجدارة الائتمانية للنساء ومدخراتهن وتمتعهن بمزايا الضمان الاجتماعي ودخلهن التقاعدي. وعلى الصعيد العالمي، لا تحصل نحو 200 مليون امرأة مسنّة على أي دخل منتظم من معاش الشيخوخة أو الترمل على الرغم من أنهن كن جزءاً من القوى العاملة في فترة سابقة من حياتهن.

وفي الحالات التي تشتد الحاجة فيها إلى كل دولار، تصبح عدم المساواة في الأجور كافية للدفع بالأسر دون خط الفقر. فعدم كفاية الدخل يعزز حلقة الفقر ويحد من الفرص ويرسخ أوجه الحرمان، في حين يؤدي التمتع بدخل كافٍ الذي يتم إنفاقه على نحو ملائم على التعليم والتغذية والصحة إلى انتشال جيل كامل من الفقر والعوز.

image title
تقوم النساء بمهام الرعاية غير مدفوعة الأجر والأعمال المنزلية مرتين ونصف أكثر من الرجال على مستوى العالم.

تحصل النساء في جميع أنحاء العالم على أجر أقل من الرجال لقاء الوظيفة ذاتها، كما يُنظر إلى عملهن على أنه أقل قيمة. على سبيل المثال، يتقاضى عمّال النظافة (ومعظمهم من الذكور) أجوراً أعلى من الخدم (ومعظمهم من الإناث) على الرغم من أن الوصف الوظيفي لكلتا الوظيفتين متطابق تقريباً.

وفي الولايات المتحدة، يكسب حاملو عدة الجولف (ومعظمهم من الرجال) 17 دولاراً في الساعة في المتوسط، بينما يتقاضى مقدمو الرعاية (ومعظمهم من النساء) 9 دولارات فقط في الساعة. لماذا يجب أن يتقاضى شخص لقاء حمل عصي الجولف أجراً أعلى من آخر يقوم بحمل الأطفال ورعايتهم؟ إن هذه التناقضات تكشف عن وجود مشكلة في المفاهيم والقناعات، حيث تعكس افتراضات لا جدال فيها للقيمة النسبية والتي تترتب عليها تداعيات معقدة ومدمرة.

تعمل النساء في المعتاد في القطاعات ذات الأجور المتدنية كرعاية الأطفال وكبار السن والأعمال المنزلية والتنظيف وخدمات تقديم الطعام. أما في الوظائف الفنية، فيتم توظيف عدد أكبر من النساء مقارنة بالرجال في المهن ذات الأجور المنخفضة، كأن يتم توظيفهن كمعلمات في المدارس الابتدائية أو ممرضات بدلاً من أستاذات جامعيات أو مهندسات أو غيرهما من الوظائف المرموقة. وحتى عندما يعملن كمحاميات أو قاضيات أو طبيبات جراحة أو قائدات للطائرات، فإنهن يتقاضين أجوراً أقل من نظرائهن الرجال الذين يقومون بالوظيفة ذاتها.

يعد هذا الاستخفاف المستمر في عمل المرأة السبب الرئيسي لهذه الفجوة في الأجور بين الجنسين. وهناك وجهان لذلك: الأول هو أن النساء يتقاضين أجوراً زهيدة لقاء الوظائف التي يقمن بها والثاني هو أن الوظائف التي يضطلعن بها تلقى تقديراً أقل لأنه يتم النظر إليها على أنها "وظائف نسائية". وكلاهما يحد من قدرة النساء على كسب الرزق.

وبما أن النساء يتقاضين أجوراً أقل، فإن عليهن العمل لساعات أطول للحصول على الدخل ذاته الذي يحصل عليه الرجال. مع ذلك، تحتم المسؤوليات المنزلية عليهن العمل لساعات أقل من الذكور أو توظيف من يساعدهن على أداء مهام الرعاية الموكلة إليهن.

وبذلك ترسخ الفجوة في الأجور شريحة كبيرة تكاد تكون غير مرئية من القوى العاملة في الرعاية واقتصاد رعاية لا يتم الاعتراف به إلا قليلاً. وعلى الصعيد العالمي، تقوم النساء بأعمال الرعاية والأعمال المنزلية غير المدفوعة الأجر بمقدار ضعفين ونصف مقارنة بالرجال. وتقدر القيمة الاقتصادية لهذا الأعمال بما يتراوح بين 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي كما في جنوب أفريقيا و39 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي المسجلة في الهند.

"لقد حان الوقت لوضع حد لهذا النظام غير المنصف. فمن الجلي أن الدخول في هذه الحلقة المفرغة من الأجور المتدنية والاعتماد على رعاية الأسرة التي لا تحصل على أي شكل من أشكال الدعم أمر غير مستحب وغير مستدام أيضاً".

فومزيلي ملامبو-نكوكا، المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة.

على الرغم من أن واقع "الذكر المعيل" قد ولى منذ زمن بعيد، إلا أنه لم يستبدل ببديل ناجع. إن الاقتصادات المعاصرة بحاجة لأن يقوم كل من الرجال والنساء بالعمل، لكن الوظائف غالباً ما تصمم كما وكأنه لا توجد أي مسؤوليات في المنزل.

وحتى تتمكن النساء من الحصول على وظيفة، قد يلجأن لتوظيف أشخاص آخرين للقيام بمهام الرعاية لأسرهن. ويمكن أن ينتج عن ذلك سلسلة معقدة من وظائف الرعاية المتعاقد عليها من الباطن، حيث تنفق كل أم عاملة نسبة من دخلها لدفع أجر امرأة أخرى قامت بتوظيفها لتأمين الرعاية لأسرتها والتي بدورها قد تضطر إلى القيام بذات الأمر من أجل إيجاد الوقت لها لكسب الرزق.

إذاً من يعتني بأطفال النساء العاملات اللواتي لا يستطعن ​​تحمل تكاليف هذه الخدمات الأساسية أو لا يستطعن الحصول عليها؟ لقد كشفت الدراسات الاستقصائية التي أجريت في 31 دولة نامية، أن 4 بالمئة فقط من النساء العاملات يمكنهن الحصول على خدمات الرعاية في دور الحضانة في حين أفادت 39 بالمئة منهن أنهن يعتنين بأطفالهن بأنفسهن.

إن الفشل في دعم اقتصاد الرعاية يتسبب في تعميق الفجوة في الأجور في بين الجنسين بطريقتين: الأولى هي التقليل من قيمة الوظائف التي تقوم بها النساء وترسيخ عمل المرأة في الوظائف المنخفضة الأجر، والثانية هي الحد من فرص العمل المدفوع الأجر للمرأة من خلال الافتقار إلى خدمات الرعاية المتاحة بأسعار معقولة.

من هنا، يفرض الواقع الحالي على المرأة إما قبول وظيفة بظروف عمل رديئة أو بدوام جزئي أو العمل في القطاع غير الرسمي للتمكن من الجمع بين عملها والقيام بواجبات رعاية الأطفال، أو تكليف هذه الرعاية لأفراد الأسرة.

وقد يكون ثمن ذلك غالياً، ففي الدول النامية التي تعاني من ضعف البنية التحتية وعدم توفر خدمات الرعاية الرسمية، قد تُجبر الفتيات على ترك دراستهن الثانوية من أجل جلب المياه أو الوقود ورعاية الأشقاء الأصغر سناً أو أفراد الأسرة الكبار في السن. ويكون ذلك عادة على حساب تعليمهن وتمتعهن بمستقبل أفضل.

لقد حان الوقت لوضع حد لهذا النظام غير المنصف. فمن الجلي أن الدخول في هذه الحلقة المفرغة من الأجور المتدنية والاعتماد على رعاية الأسرة التي لا تحصل على أي شكل من أشكال الدعم أمر غير مستحب وغير مستدام أيضاً.

image title
تحظى الفتيات في الهند بتعليم ذي جودة أقل مقارنة بالفتيان، وهو ما يعني أنهن عندما يكبرن يصبحن أقل حظاً في الحصول على وظائف جيدة الأجر، ما يزيد من ترسيخ أوجه عدم المساواة بين الجنسين.

ومن الحلول الواعدة لهذه المشكلة قيام الحكومات بالاستثمار في خدمات الرعاية. فقد وجدت دراسة أجراها الاتحاد الدولي لنقابات العمال والفريق المعني بالميزانيات النسائية في المملكة المتحدة أن الاستثمار في نظام شامل ومجاني لرعاية الأطفال يوفر أجوراً لائقة للعاملين فيه، من شأنه أن يخلق 1.65 مليون وظيفة ويقلل الفجوة في الأجور بين الجنسين بنسبة 3.4 بالمئة.

في ظل نظام كهذا، يحصل الأطفال على أفضل ما يستحقونه في مراحل حياتهم الأولى وتتمكن النساء من البقاء في سوق العمل وبناء حياتهن المهنية، والأفضل من ذلك كله هو إمكانية استرداد معظم الاستثمار من خلال ارتفاع عائدات الضرائب وانخفاض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية.

في السنوات الأخيرة، بدأت بعض دول أمريكا اللاتينية، من بينها الإكوادور والمكسيك وتشيلي، بإحراز تقدم حقيقي على صعيد خدمات رعاية الأطفال. وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة هذه الخدمات، لا سيما على المدى القصير، إلا أنها استثمار اقتصادي واجتماعي يحقق عائدات كبيرة.

وفي مناطق أخرى من العالم، تحاول الحكومات سد هذه الفجوة في الأجور بين الجنسين بشكل مباشر. ففي المملكة المتحدة، أعلنت الحكومة عزمها العمل على ردم الفجوة في الأجور بين الجنسين في غضون جيل واحد، وألزمت الشركات التي تضم أكثر من 250 موظفاً بالكشف عن الفجوة في الأجور في مواقع العمل التابعة لها. ويمكن لمثل هذه الشفافية أن تحدث فرقاً وتدفع نحو تحقيق تغيير إيجابي. كما تعتبر السرية التي تحيط بالأجور أمراً غير قانوني في 11 ولاية أمريكية. على ضوء ذلك، توصلت دراسة إلى أن الفجوة في الأجور بين الجنسين في تلك الولايات أصغر، كما تميل النساء فيها إلى كسب أجور أعلى مقارنة بنظيراتهن في الولايات الأخرى.

علاوة على ذلك، يعد رفع الحد الأدنى للأجور على المستوى الوطني مع توفير مزايا أكبر للنساء اللواتي يشغلن وظائف منخفضة الدخل سبيلاً آخر لحل المشكلة. إن سياسات الشركات من قبيل الإجازة الوالدية وساعات العمل المرنة والعمل من المنزل آخذة في التزايد على الرغم من أن التغييرات في الثقافة التي تجعل تبنيها مجدياً ما تزال ضعيفة.

لا يوجد حل سحري لهذه المسائل وما تحقيق التمكين الاقتصادي للمرأة إلا وجه واحد فقط من أوجه المساواة الكاملة بين الجنسين التي يتوجب علينا تحقيقها. لكن عندما يتعلق الأمر بتقليص الفجوة في الأجور بين الرجال والنساء، فإننا بحاجة ملحة لإيجاد حلول فعّالة والعمل على تنفيذها. - PA

اقرأ المزيد