من إنقاذ الحياة إلى تغييرها

تقول الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، المناصرة البارزة لدى مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، أن الاستثمار في تعليم اللاجئين وصحتهم وحريتهم سيحقق مكاسب مهمة على المدى الطويل.

في أحد الأيام أخبرتني فتاة شجاعة تدعى هيلين أن علينا النظر إلى كل حرب كما لو أنها اقتتال بين أفراد أسرتنا. ولذلك يتوجب علينا - كأسرة عالمية - أن نجد حلولاً دبلوماسية للأزمات التي يتسبب بها البشر.

من واجبنا أيضاً توفير المساعدة لأولئك الذين تسببت النزاعات في تحطيم حياتهم. ومن أجل الأطفال المتأثرين بالحروب والصراعات مثل هيلين، يجب علينا تسليط الضوء على مأساة النازحين من الرجال والنساء – والأطفال أيضاً، الذين يشكّلون نصف اللاجئين في العالم.

في السابق، كان أول ما يتبادر إلى ذهني هو السعي لمساعدة الجميع في آن واحد. لكن في كل مرة كان هناك طفل آخر أو امرأة أخرى لا أستطيع الوصول إليهم. غير أنني أدركت أنه من الأفضل تركيز مساهماتنا على هدف واحد في كل مرة كي نتمكن من إحداث فرق واضح في حياة الناس. قد لا نتمكن من الوصول إلى كل شخص يحتاج إلى المساعدة، ولكننا إذ قمنا بمساعدة بعض الفئات السكانية، فإننا سنحولهم إلى أشخاص فاعلين في المجال الإنساني وسيقومون هم بدورهم بدعم الأشخاص الذين لا نستطيع الوصول إليهم.

على مدى العقود الأخيرة، كان لي شرف قيادة الجهود الإنسانية من الأردن إلى لبنان ومصر، ومن فلسطين إلى الصومال وأبعد من ذلك. يشترك عمال الإغاثة الشجعان الذين التقيت بهم في شيء واحد: إنهم جميعاً أشخاص عاديون لكن قلوباً استثنائية تنبض بداخلهم.

مع ذلك، ولكي نتمكّن من إحداث تغيير إيجابي حقيقي ودائم، لا يمكننا - وهم أيضاً - الاعتماد فقط على المساعدات الطارئة، إذا لا يمكننا تعليمهم الاستقلالية من خلال تشجيعهم على الاتكال على الآخرين. بل علينا الاستثمار في مستقبلهم من خلال التعليم، تماماً كما نستثمر في مستقبل أي طفل من أطفالنا.

image title
يوفر التعليم للأطفال اللاجئين والنازحين فرصة للتمتع بمستقبل أكثر إشراقاً. الصورة: غيتي إميجيز.

"عندما نقوم بتعليم الأطفال اللاجئين، فإننا نشكل جيلاً من الأشخاص الذين يثمنون قيم السلام والتسامح".

يتسبب الصراع بسلسلة من ردود الفعل الخطرة. فالنزوح يؤدي إلى البطالة، التي تؤدي بدورها إلى الفقر، وهو ما يجبر اللاجئين الصغار في السن إلى الانخراط في عمالة الأطفال، الأمر الذي يجعلهم عرضة للاستغلال والجريمة والعنف.

وأكثر ما يثير القلق أن الصدمة النفسية التي تعرض لها هؤلاء الأطفال بعد رؤية والديهم يقتلون أمام أعينهم قد تدفعهم للانضمام إلى صفوف الحرب عندما يكبرون.

إن العمل الإنساني قادر على كسر هذه السلسلة. غير أن المساعدات الإنسانية يجب أن تتطور مع تطور احتياجات اللاجئين.

عندما اندلعت الحرب في سوريا، كانت الأولوية العاجلة هي تأمين المساعدات الغذائية والمياه والبطانيات والمأوى. ومع تحوّل الأيام إلى أسابيع والأشهر إلى سنوات، بات من الواضح أن علينا أن نركز الآن على المدارس والمعلمين والكتب والرعاية الصحية والبنية التحتية وتقديم المشورة من أجل كسر حلقة الكراهية والانتقام من خلال تعزيز قيم التسامح.

لا شك أن العواقب المباشرة للنزاع تتطلب منا دائماً التركيز على التدخلات العاجلة كتوفير العلاج الطبي المنقذ للحياة، لكن لا يجب علينا ننتظر طويلاً لتبني المزيد من الأهداف الطويلة المدى.

يمكننا تعلم الدروس من المناطق التي شهدت نزاعات في السابق مثل رواندا، حيث تحوّل التركيز من المتطلبات القصيرة الأجل كحفظ السلام إلى المتطلبات المتوسط ​​الأجل – مثل لم شمل الأسر النازحة واللاجئة - وثم إلى الاحتياجات الطويلة الأجل، كالتركيز على الوظائف والمصالحة بين الأعداء السابقين.

من دون اتباع هذا النهج الاستراتيجي فإن أي شكل من أشكال ’السلام‘ الذي يتم التوصل إليه لن يكون أكثر من مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار قابل للانهيار والتحوّل إلى صراع من جديد.

image title
تسبب النزاع في سوريا خلال عقد من الزمن في تحويل نحو 6.6 مليون شخص إلى لاجئين، الكثيرون منهم من الأطفال. الصورة: غيتي إميجيز.

لقد اختبرت ذلك في فلسطين من خلال مبادرتي غير الربحية ’سلام يا صغار‘. فمن خلال مساعدة النساء في العثور على وظائف ودعم رائدات الأعمال هناك، عملنا بشكل غير مباشر على تمكين أسرهن، وأصبحت الأمهات الآن قادرات على تحمل تكاليف تعليم أطفالهن.

سيكبر هؤلاء الأطفال المتعلمون وسوف يرفضون الجريمة والعنف لأنهم يتمتعون بالاستقلال المالي، وهو ما سيسهم بدوره في تعزيز السلام والمساواة بين الجنسين.

لا يعتبر التعليم في سوريا، التي تعتبر الأزمة الإنسانية الأكبر في عصرنا الحالي، مجرد بوابة للحصول على الوظائف، بل إنها بوابة لتحقيق السلام والتسامح. يمكن للمدارس والمعلمين والمواد التعليمية التي تتميز بالجودة العالية أن تقدم للسلام العالمي أكثر مما تقدمه جيوش العالم مجتمعة.

تكرس مؤسسة القلب الكبير في الإمارات جهودها لجمع الأموال للسوريين وقد زرعت بالفعل تلك البذور من خلال التعليم، وهي عازمة على إخراج قصص نجاح من هذه الكارثة. نحن بحاجة إلى تنشئة جيل من الأشخاص المستقلين الذين سيتخطون بيئة الحرمان التي جاؤوا منها، فليس من المهم من أين جئت بل إلى أين أنت متجه.

إن التاريخ حافل بقصص اللاجئين الذين رفضوا ترك ماضيهم يثقل كاهلهم وحققوا الشهرة ووصلوا إلى مراكز مرموقة كأولئك الذين حازوا على جوائز نوبل والعلماء والكتّاب والمعلمين والفنانين والمخترعين وغيرهم من قادة الفكر.

لكن لا يمكننا تحقيق كل ذلك من دون أن نتحول من تقديم التبرعات إلى الاستثمار في تعليم اللاجئين وفي صحتهم وحريتهم. فإذا ظل اللاجئون محاصرين في دائرة الإعانات، فلن نتمكن أبداً من معرفة أي من هؤلاء الفتيات والفتيان الصغار سيتمكن يوماً من اكتشاف علاج للسرطان أو التصدي لمشكلة الجوع في العالم أو التفاوض من أجل تحقيق السلام العالمي.

لم أعد أنظر إلى الجهود التي نقوم بها على أنها مجرد عمل خيري، فالأعمال الخيرية لا تتعدى تقديم مجموعة من المساعدات لمرة واحدة فقط من أجل تلبية احتياجات ملحّة، بل إنني أنظر إليها الآن على أنها استثمار في مجتمعنا ومستقبلنا.

عندما نقوم بتعليم الأطفال اللاجئين، فإننا نشكل جيلاً من الأشخاص الذين يثمنون قيم السلام والتسامح. ومن خلال مساعدة اللاجئين اليوم، فإننا من دون شك قادرون على تخفيض عدد الأشخاص الذين قد يصبحون لاجئين في المستقبل. - PA

 

اقرأ المزيد