أمواج التغيير

غواصان أردنيان ينظمان حملات تنظيف للبحر الأحمر من أجل أجيال المستقبل ويحولان إعادة تدوير البلاستيك إلى فرص لكسب العيش للاجئين الفلسطينيين.

عندما عاد عاشقا الغوص سيف المدانات وبيسان الشريف لممارسة رياضتهما المفضلة في مياه مدينة العقبة في جنوب الأردن بعد انتهاء فترات الإغلاق بسبب جائحة كورونا، أصيب الغطاسان بالصدمة بسبب الكمية الهائلة من النفايات التي تراكمت في قاع البحر.

ويصف المدانات، وهو صيدلي مقيم في العاصمة الأردنية عمّان، ما رآه الثنائي فيقول: "لقد أصبنا بالذهول عندما اكتشفنا كمية النفايات التي تراكمت في أعماق البحر، إذ لم يكن الغواصون يجمعون هذه النفايات خلال فترة الإغلاق". ويضيف قائلاً: "وعندما بدأنا البحث أكثر في هذه القضية، وجدنا أنه في غياب أي تدخل للحد من هذه المشكلة فإن المحيطات قد تحتوي على كميات هائلة من النفايات البلاستيكية تفوق ما في باطنها من أسماك بحلول العام 2050".

التقى المدانات، البالغ 37 عاماً مع الشريف، البالغة 34 عاماً، في رحلة غوص بعد انتهاء الجائحة واكتشفا شغفاً مشتركاً بجمع قطع البلاستيك الغارقة. لكن كلما زادت كمية النفايات التي جمعاها أثناء الغوص، كانا يعثران على المزيد منها.

دفع حجم هذا التحدي الغوصين الشغوفين بالحفاظ على البيئة لإطلاق مبادرة ’بروجكت سي‘ التي فضلاً عن توليها مهمة التنظيف والحفاظ على مواقع الغوص الـ28 على طول ساحل البحر الأحمر في الأردن الذي يبلغ طوله 20 كيلومتراً، تقوم أيضاً بإعادة تدوير البلاستيك الذي يتم التقاطه وتحويله إلى حقائب وسلع حرفية أخرى، مما يدر دخلاً للاجئين.

ولتمويل حملات الغوص، التي تعد أنشطة مكلفة نوعاً ما، عقد المدانات والشريف شراكة مع علامة تجارية محلية تسمى ’هيرب + ديزاين‘ لبيع شموع الصويا العضوية. وبعد بيع الدفعات الثلاثة الأولى من هذا المنتج، تمكنا من تمويل أربع رحلات جماعية.

وتتذكر الشريف، التي تدير أعمال عائلتها في مجال الحلول اللوجيستية من العاصمة عمّان، الأيام الأولى لمبادرة ’بروجكت سي‘ وتقول مازحة أن أصدقاءها وأقاربها كانوا يتلقون الشموع كهدايا طوال الوقت. وتضيف قائلة: "هكذا أضأنا الطريق لمبادرة ’بروجكت سي‘. لقد بدأت كفكرة متواضعة، ولكن هدفنا كان إطلاق حركة لتعزيز الاستدامة البيئية إلى جانب الاستهلاك الواعي".

وقد لاقت مبادرة ’بروجكت سي‘ صدى لدى الغواصين المحليين على الفور وسرعان ما استحوذت على اهتمام سياح الغطس من جميع أنحاء العالم. وبعد ثلاث سنوات على إطلاقها، تمكنت المبادرة من تنفيذ أكثر من ثلاثين غطسة لتنظيف البحر وإزالة ما يقرب من 130,000 قطعة نفايات من أعماقه.

"هدفنا كان إطلاق حركة لتعزيز الاستدامة البيئية إلى جانب الاستهلاك الواعي."

بيسان الشريف، المؤسس المشارك لـ ’بروجكت سي‘

وكشف تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة في عام 2022 عن إحصائية مثيرة للقلق، إذ يجد ما يقدر بنحو 11 مليون طن متري من البلاستيك طريقه إلى محيطاتنا سنوياً. وقد تفاقم هذا الوضع خلال جائحة كوفيد-19 بسبب الاستخدام الواسع النطاق للمواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد. ففي ذروة الوباء، تم استخدام ما يقرب من 129 مليار قناع للوجه و65 مليار قفازة شهرياً على مستوى العالم، مما أدى إلى تفاقم أزمة التلوث البلاستيكي.

ويثير هذا التلوث البلاستيكي الكثير من المخاوف بشأن سلامة الحياة البحرية. فقد كشفت دراسة أجريت عام 2015 أنه قد تم العثور على البلاستيك في أحشاء 90 بالمئة من الطيور البحرية، وكشف بحث منفصل في عام 2014 أن نصف السلاحف البحرية قد تناولت البلاستيك، إذ أنها تخلط في الكثير من الأحيان بينه وبين قناديل البحر أو الطحالب.

ويقول المدانات: "لدينا ما يقرب من 500 نوع من الأسماك والشعاب المرجانية الزاهية الألوان والنابضة بالحياة". وفي حين تبدو الشعاب المرجانية في العقبة حتى الآن قادرة على الصمود أمام التبييض الناجم عن تغير المناخ الذي تعاني منه العديد من المناطق في العالم، إلا أن التلوث البلاستيكي يشكل تحدياً كبيراً بالنسبة لهذه الكائنات البحرية في العقبة.

"هذه ليست مجرد مشكلة في الأردن فقط،" كما يقول المدانات لـ ’زمن العطاء‘، "بل إنها مشكلة عالمية". ويضيف قائلاً: "للأسف، أصبحت بعض الأسماك والأحياء البحرية، مثل الراي اللاسع وسمك الضفدع، أقل شيوعاً بسبب التلوث. لقد كان لدينا دلفين اطلقنا عليه اسم ’هوب‘ لكننا لم نره منذ أكثر من عام، ونحن على يقين أن السبب هو وجود هذه كل النفايات في المياه".

image title
ينتهي ما يصل إلى 11 مليون طن متري من البلاستيك في محيطاتنا كل عام، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.

وقد انضم إلى مبادرة ’بروجكت سي‘ التي تم تسجيلها كمنظمة غير ربحية في الأردن ما يقرب من 400 متطوع من 40 دولة من أجل المشاركة في حملات الغوص الشهرية.

وتستمر كل جولة غوص ما بين 30 و45 دقيقة، ويتم تجميع الغواصين بعناية في مجموعات بناءً على مستويات المهارة والخبرة لديهم. وتكفل الإرشادات الصارمة التي تتبعها المنظمة جمع النفايات دون الإضرار بالحياة البحرية، إذ يحصل الغواصون على قفازات وأكياس شبكية، ويتم عقد جلسات إحاطة قبل كل جولة للتأكيد على أهمية ترك العناصر التي أصبحت جزءاً من النظام البيئي.

وتقول الشريف أنه "يجب الحرص على عدم لمس أي شيء تنمو عليه الحياة البحرية،" موضحة أن المرجان ينمو حول النفايات التي تبقى في قاع البحر لفترات طويلة وأن الأخطبوطات والسرطانات الصغيرة غالباً ما تسكن في الزجاجات والعلب.

والجزء الأكبر من النفايات التي يتم جمعها عبارة عن مواد مصنوعة من البلاستيك المستخدم لمرة واحدة مثل الأكواب والقوارير وعبوات الطعام - والتي تضاعف استخدامها خلال الجائحة. غير أن الفريق جمع أيضاً الزجاجات والعلب المعدنية والأنابيب الصناعية والإطارات وحتى باب سيارة.

ولذلك تمتد مهمة ’بروجكت سي‘ لأبعد من جمع النفايات من قاع البحر إذ تركّز في المقام على منع التلوث من مصدره. غير أن هذه المعركة تعتبر شاقة في ظل استخدام المواطن الأردني نحو 500 كيس بلاستيكي سنوياً، ما يترتب عليه التخلص من ما يقدر بنحو 100 مليون كيس في البيئة سنوياً.

"هناك عدد متزايد من الأفراد الذين يأملون أن يشاركونا في الحفاظ على البيئة ... لكن الأمل لا بد أن يقترن بالعمل."

سيف المدانات، المؤسس المشارك لـ ’بروجكت سي‘

وفي محاولة للحد من البلاستيك وإعادة استخدامه، تقوم منظمة ’بروجكت سي‘ الآن بصنع حقائب كبيرة وحقائب الشاطئ القابلة لإعادة الاستخدام من المواد التي يتم التقاطها في حملات التنظيف هذه.

وقد تم تصميم هذه الحقائب باللون الأزرق الذي يميز شعار ’بروجكت سي‘ ويتم صنعها من قبل لاجئين فلسطينيين في جمعية الفتى اليتيم الخيرية، وهو  مركز مجتمعي اسسه والد الشريف وتقوم بإدارته بنفسها.

ينظم المركز، الذي يقع في مخيم جبل الحسين للاجئين في عمّان، أنشطة أسبوعية وبرامج مهنية للاجئين الفلسطينيين، ففكرت الشريف أن توكل إلى اللاجئين مهمة صنع حقائب كبيرة من البلاستيك الذي يتم التقاطه ليتم بعد ذلك بيعها من أجل جمع الأموال.

وتشرح قائلة: "لدينا مركز للتطريز داخل المركز المجتمعي، حيث تقوم الأمهات بصنع الحقائب ... لقد أردت إطلاق منتج من شأنه أن يساعدنا في الحفاظ على استمرارية ’بروجكت سي‘ وأن يعطي النساء في المركز الفرصة للمشاركة في هذه الجهود. ولذلك نقوم بمنحهن جزءاً من المبيعات وندفع لهن مقابل وقتهن كذلك".

وتعد المشاركة المجتمعية قيمة أساسية بالنسبة لـ ’بروجكت سي‘ إذ يقول المدانات: "لدينا قيم واضحة جداً وهي التعليم ورفع الوعي وتمكين المرأة ودعم المجتمعات المحلية ... إن بناء مجتمع من أفراد يحملون نفس الأفكار ومستهلكين يتميزون بالوعي أمر بالغ الأهمية بالنسبة لـ ’بروجكت سي‘".

أما الشريف فتقول أن كسر الحواجز الجنسانية هو أحد أهداف المنظمة أيضاً إذ تذكر أنها عندما بدأت بممارسة هذه الرياضة كانت في كثير من الأحيان المرأة الوحيدة على متن السفينة. وعن ذلك تقول: "عندما أطلقنا أنا وسيف ’بروجكت سي‘، كنت مصممة على كسر هذا الحاجز ولذلك بدأت بالتركيز على وجه التحديد على إشراك المزيد من النساء لأنني لطالما شعرت أن مشاركتهن في الغوص غالباً ما تكون متواضعة للغاية".

وقد أسفرت جهود الشريف عن نتائج مهمة، إذ تشكل النساء اليوم ما لا يقل عن نصف أعضاء فرق الغوص في ’بروجكت سي‘. كما تشير إلى العدد الكبير من النساء اللائي يمارسن رياضة الغوص الآن فتقول: "شعرت بالدهشة عندما علمت بوجود هذا العدد الكبير من النساء الحاصلات على شهادات معتمدة في الغوص، لكنني اكتشفت أنهن يفتقرن إلى مجتمع يجمعهن سوياً". وتضيف قائلة: "لا شك أن هناك شيئاً مميزاً للغاية في غرس الطاقة الأنثوية في مجال يهيمن عليه الذكور".

وبالإضافة إلى تنظيم جولات الغوص من أجل التنظيف وصناعة الحقائب من المواد المعاد تدويرها، تعقد منظمة ’بروجكت سي‘ ورش عمل في المدارس المحلية، ومن المقرر أن تنشر قريباً كتاباً مصوراً عن قصتها بهدف رفع مستوى الوعي بين الأجيال القادمة من الأردنيين.

وتقول الشريف: "لا يمكننا الاعتماد على الغوص فقط للحد من مشكلة النفايات المتراكمة في قاع البحر؛ فهو ليس نشاطاً مستداماً... بل نحن بحاجة إلى ترسيخ التثقيف والوعي في ثقافتنا. نحن متفائلون أن لدى هذا الجيل إمكانات هائلة وأعتقد أننا نمهد الطريق لهم فقط، أما هم فعليهم المضي قدماً بهذه الجهود".

"لا يمكننا الاعتماد على الغوص فقط للحد من مشكلة النفايات المتراكمة في قاع البحر؛ فهو ليس نشاطاً مستداماً."

بيسان الشريف

وقد حظيت مبادرات ’بروجكت سي‘ باهتمام كبير وجذبت الدعم من الشركات الخاصة والفنانين والمبتكرين المحليين المهتمين بالحفاظ على البيئة. وفي مبادرة بالتعاون مع شركة ’بريشيس بلاستكس‘ Precious Plastics الإسبانية، ستقوم ’بروجكت سي‘ بتركيب مقاعد عامة مصنوعة من 36 كجم من النفايات البلاستيكية في جميع أنحاء العقبة.

وعن تطلعاته للمستقبل يقول المدانات: "نأمل أن تصبح ’بروجكت سي‘ في يوم من الأيام منظمة رائدة عالمياً في الحفاظ على البيئة البحرية، وأن نطلق حركة تهدف إلى التغيير. نتمنى أن نتمكن يوماً من وقف حملات التنظيف والعمل على حل المشكلة النفايات من جذورها، أي السعي لإعادة استخدام النفايات والحد منها قدر المستطاع".

ويسعى الغواصان أيضاً إلى تنظيم رحلات غوص في مصر والمملكة العربية السعودية والكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة، بهدف تحفيز المشاركة في جميع أنحاء المنطقة. وفي فبراير، تم ترشيحهما من قبل سفارة الولايات المتحدة للمشاركة في برنامج سيعقد في كاليفورنيا ونيو مكسيكو لتبادل الأفكار قبيل مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28) الذي سيعقد في دبي في وقت لاحق من هذا العام.

ويختتم المدانات حديثه بالقول: "هناك عدد متزايد من الأفراد الذين يتبنون مبادرتنا في الأردن وخارجه ويأملون أن يشاركونا في الحفاظ على البيئة ... لكن الأمل لا بد أن يقترن بالعمل. ولذلك تستهدف جهودنا الطلاب وعامة الناس وجيل المستقبل، لأن الأمل في التغيير معقود عليهم". - PA

اقرأ المزيد