أموال عالمية لحلول محلية

نيك غرونو، الرئيس التنفيذي لصندوق الحرية، يتحدث عن الأسباب التي تجعل دور منظمات القواعد الشعبية حاسم الأهمية في التصدي للاستغلال الجنسي للأطفال

استغرقت الرحلة من دكا إلى داولاتديا حوالي ثلاث ساعات، وهو وقت كافٍ لكي يطلعني زميلي على ما يمكنني توقعه عند الوصول. تقع داولاتديا في مقاطعة راجباري في بنغلاديش التي لا تبعد كثيراً عن الحدود مع الهند وتشتهر بكونها أكبر بيت للدعارة في البلاد، وواحداً من أكبرها في العالم.

تعيش أكثر من 1,800 عاملة في الجنس ونحو 500 طفل في القرية المكتظة الواقعة بالقرب من ضفاف نهر بادما. ويمر خط سكة حديد وسط هذا المجتمع المزدحم الذي يشبه متاهة من الكتل الخرسانية والمباني المشيدة من الطوب وأكواخ الصفيح. وفي المنطقة المحيطة بغرف العمل الضيقة والمظلمة تتناثر متاجر بأحجام مختلفة يتجمع بداخلها الزبائن وينتشر في محيطها الباعة المتجولون وسائقو عربات الريكشو. كما أن الظروف المعيشية مزرية في هذا المكان البائس ويعتبر تعاطي المخدرات ممارسة شائعة.

ويعد العمل في الجنس قانونياً في بيوت الدعارة المرخصة في بنغلاديش، على أن يزيد عمر العاملات هناك عن 18 عاماً، كما يفترض أن يحملن شهادة تؤكد موافقتهن على هذا النوع من العمل. مع ذلك، تعرضت نسبة عالية منهن للاتجار بهن بشكل غير قانوني في هذه الصناعة.

زرت داولاتديا، بصفتي الرئيس التنفيذي لـ ’صندوق الحرية‘ Freedom Fund الذي يسعى لإنهاء العبودية الحديثة من خلال تحديد أكثر التدخلات فعالية على الخطوط الأمامية والاستثمار بها، من أجل تعميق معرفتي بالاستغلال الجنسي التجاري للأطفال هناك واستكشاف ما يمكن لمنظمتي تقديمه لمساعدة المتأثرين.

حققت بنغلاديش، التي كانت ذات يوم واحدة من أفقر دول العالم، قفزات اقتصادية كبيرة وأصبحت في عام 2015 واحدة من دول الشريحة الدنيا من الدخل المتوسط. مع ذلك، يفيد البنك الدولي أن أكثر من 20 مليون بنغالياً ما زالوا يرزحون تحت خط الفقر (بدخل يقل عن 2.15 دولاراً في اليوم).

وبينما يضطر العديد من الأطفال إلى ترك مقاعد الدراسة من أجل كسب رزقهم، لا تنهي سوى ربع الفتيات البنغاليات مرحلة الدراسة الثانوية. نتيجة لذلك، يصبح هؤلاء الأطفال معرضين بشكل كبير للاستغلال وسوء المعاملة ويعاني الآلاف منهم من الاستغلال ويتم الاتجار بهم ويجدون أنفسهم عالقين في صناعة الجنس التجاري.

كانت النسوة اللائي التقينا بهن في زيارتنا إلى داولاتديا في وضع يائس للغاية. فقد كان بيت الدعارة قد أغلق لأشهر في عام 2020 بسبب جائحة كوفيد-19 وقد نضُب دخل العاملين فيه بين ليلة وضحاها. ولم يكن لدى النساء، باستثناء قلة قليلة منهن، مدخرات يمكنهن الاعتماد عليها وأصبحت الكثيرات منهن معدمات ومعتمدات على المساعدات الحكومية الضئيلة لتأمين قوت يومهن إلى أن يتم استئناف العمل.

وحتى بعد رفع القيود وحصول النساء على اللقاح، بقي النشاط التجاري منخفضاً بعد أن أدى افتتاح طريق سريع إلى تقليص عدد سائقي الشاحنات الذين يتوقفون في داولاتديا.

ووفقاً للمنظمات غير الحكومية المحلية، يقدر أن ما يصل إلى نصف العاملات في بيوت الدعارة في المجتمع المحلي لم يبلغن بعد الـ 18. وكغيرهن من العاملات في الجنس اللواتي تزيد أعمارهم عن 18 عاماً تتعرض هؤلاء النساء في سن مبكرة للمقامرة والعنف والمخدرات، فضلاً عن التحرش والاعتداء الجنسي من قبل الزبائن. وفي بعض الحالات، يتم إحضار الأطفال من الفتيات أيضاً إلى بيت الدعارة من مجتمعات أخرى ويتم تشغيلهن بالجنس القسري.

image title
الصبية رونا، ابنة الـ20 سنة، تعمل في بيت للدعارة ببنجلادش. الندبة التي تعلو وجهها، تشهد على أذية من يستغلها في هذه المهنة. الصورة: بعدسة سفين تورفين، (وكالة بانوس).

وهناك قدر ضئيل من المساءلة عن العنف الجنسي والجسدي الذي تتعرض له العاملات في الجنس في بنغلاديش. علاوة على ذلك، فإن وصمة العار المرتبطة بالصناعة تجعل من الصعب على الأمهات تسجيل أطفالهن بعد الولادة، ما قد يحول دون الوصول إلى الخدمات الحكومية مثل الصحة والتعليم.

في عام 2022، بدأ صندوق الحرية بدعم مجموعات المجتمع المدني المحلية من أجل التصدي بشكل جماعي للأسباب الكامنة وراء الاستغلال الجنسي والحد من عدد الأطفال الذين يتم استغلالهم.

كما يعمل شركاؤنا على إنشاء شبكات أمان للأطفال المعرضين للخطر، إذ يساعدونهم على الالتحاق بالمدارس والبقاء فيها، ويعملون على تشكيل مجموعات الأمهات وتيسيرها لرفع الوعي بحقوق الأطفال ومخاطر الاستغلال. علاوة على ذلك، يقوم شركاؤنا بتشكيل لجان حماية الأطفال التي تراقب وتبلغ عن استغلال القصر في بيوت الدعارة (وعند الضرورة تقديم الدعم لهم لمغادرتها). ويساعد البعض أيضاً العاملات بالجنس في الحصول على الضمان الاجتماعي والمزايا الأخرى ويوفرون التدريب على المهارات للنساء اللواتي يرغبن في العثور على وظائف خارج بيوت الدعارة.

"من خلال التنسيق الجيد وحشد الموارد المناسبة، يمكن للجهود التي يبذلونها أن تضمن مستقبلاً أكثر أماناً وحرية للآلاف من الأطفال".

image title
طفلٌ مشرد يسير فوق قضبان سكة الحديد في محطة كامالابور في دكا. الصورة: جي، إم. بي. أكاش (صور من وكالة بانوس)

خلال الفترة التي قضيتها في بنغلاديش، أصبح لدي أيضاً فكرة أفضل عن صناعة الجنس غير الرسمية في دكا، حيث يتم شراء الجنس وبيعه في الشوارع. وفي وسط هذه الظروف الصعبة والموارد المحدودة للغاية، ترعى الجمعيات الخيرية المحلية الأشخاص الذين لم يحظوا بما يكفي من الاهتمام، لا سيما أطفال الشوارع.

ويقدر عدد الأطفال الذين يعيشون في شوارع بنغلاديش بما لا يقل عن 1.5 مليون طفل. وعلى الرغم من أنهم ليسوا جميعاً أيتاماً، إلا أنه قد تم التخلي عنهم إما لإن ذويهم لا يستطيعون تحمل تكاليف رعايتهم أو لأنهم غادروا منازلهم هرباً من سوء المعاملة.

ويعيش نحو 300 من هؤلاء الأطفال في محطة كامالابور لسكة الحديد، وهي المحطة الأكبر في بنغلاديش. وفي النهار، يكسبون لقمة عيشهم من حمل أمتعة الركاب أو بيع الزهور أو جمع الزجاجات البلاستيكية الفارغة وبيعها مقابل المال، أما في الليل، فيتجمعون معاً للنوم تحت المقاعد أو بجانب القطارات. وبسبب اليأس، تتجه العديد من الفتيات نحو العمل بالجنس في حين يلجأ الأولاد إلى تعاطي المخدرات.

وفي إحدى الزيارات إلى أحد مراكز الاستقبال الذي تديره منظمة غير حكومية صغيرة بالقرب من المحطة، التقينا بنحو 40 طفلاً وطفلة تتراوح أعمارهم بين السابعة والخامسة عشرة. وقد عبّروا جميعهم عن رغبة قوية بالشعور بأمان أكبر أثناء الليل. وتأمل المنظمة غير الحكومية التي تدير مركز الاستقبال في إنشاء مأوى لهم في حال تمكنت من جمع ما يكفي من الأموال لذلك.

ومنذ تأسيسه في عام 2014، ساعد صندوق الحرية نحو 1.5 مليون شخص من المعرضين لخطر الاتجار بهم من خلال عقد شراكات مع منظمات القواعد الشعبية وتيسير المزيد من التعاون وتوفير التمويل الثابت والمتعدد السنوات وتقديم المساعدات الفنية لتعزيز تدخلاتها. وفي تايلاند، يعمل شركاؤنا على إنهاء العمل القسري في صناعة المأكولات البحرية من خلال تنظيم العمّال المهاجرين وتمكينهم للدفاع عن حقوقهم والانخراط في الأعمال التجارية. أما شركاؤنا في إثيوبيا فيركزون على الحد من الاتجار بالنساء المهاجرات إلى الشرق الأوسط من أجل العمل المنزلي.

إننا نرى فرصة حقيقية لاتباع النهج ذاته في بنغلاديش. ويشمل ذلك الشراكة مع ’شبكة العاملات بالجنس‘ Sex Workers Network، وهي مجموعة من 29 منظمة مجتمعية تعمل على حماية حقوق العاملات في الجنس في البلاد. ومن خلال شراكتنا، تقوم شبكة العاملات بالجنس بربط القاصرات والأمهات المعرضات للخطر وغيرهن من العاملات في الجنس بخدمات الدعم، لا سيما في مجالات التعليم والمشورة والمأوى وفرص التدريب. ونظراً لأنهن أصحاب الحقوق الأكثر تأثراً بهذه القضية، فإن مشاركتهن تعد أمراً بالغ الأهمية لأنهن يفهمن احتياجات المجتمع ويمكنهن التفكير بحلول من شأنها أن تجعل الأوضاع أكثر أماناً امجتمع العاملات في الجنس ككل.

وللحكومة أيضاً دور مهم لا بد أن تلعبه، وهو الدور الذي نأمل في الاستفادة منه جنباً إلى جنب مع دعم شركائنا من المنظمات غير الحكومية. نأمل أن نرى تركيزاً أكبر على تسجيل المواليد وإصدار بطاقات الهوية الوطنية لأمهات الأطفال المعرضين للخطر ووضع خطة عمل وطنية بشأن الاستغلال الجنسي التجاري للأطفال وتقديم المزيد من الدعم للحفاظ على سلامة أطفال الشوارع في الليل.

وفي حين أن زيارتي هذه أعطتني نظرة ثاقبة حول الواقع المعقّد للاستغلال الجنسي التجاري للأطفال في بنغلاديش، إلا أنها رسخت إيماني أيضاً في الجهات التي تمتلك الحلول الواعدة - أي مجموعات المجتمع والقادة المحليون. فمن خلال التنسيق الجيد وحشد الموارد المناسبة، يمكن للجهود التي يبذلونها أن تضمن مستقبلاً أكثر أماناً وحرية للآلاف من الأطفال.

ولا شك أن العمل الخيري يلعب دوراً بارزاً هنا؛ وبالتعاون مع القيادات المحلية، يمكن للمانحين أن يصبحوا شركاء لا غنى عنهم في التصدي للقضايا المعقدة المتعلقة بالنظام كالاستغلال الجنسي التجاري للأطفال.-PA