دروس في العطاء

يقول الشيخ الدكتور محمد بن مسلّم بن حم العامري أن رواد العطاء العرب يتبرعون بمليارات الدولارات للأعمال الخيرية، لكنه يرى أن تعزيز التعاون وتبادل المعارف فيما بينهم قد يكون السبيل لتحقيق المزيد من الإنجازات.

يقدم الشيخ الدكتور محمد بن مسلّم بن حم العامري نصيحة لرواد العطاء الحديثي العهد وهي البدء من النقطة التي توقف عندها الآخرون، إذ يقول رجل الأعمال المولود في مدينة العين والبالغ من العمر 48 ربيعاً: "لا تقم بإعادة اختراع العجلة، بل تعلّم من نجاحات وإخفاقات الآخرين. وعليك أيضاً التعاون مع الآخرين كلما سمحت لك الفرصة، فذلك يوفر وقتك وأموالك ويحقق لك نتائجَ أفضل".

يتبنى ابن حم، الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة مجموعة بن حم الإماراتية والعضو السابق في المجلس الوطني الاتحادي، نفسه هذه النصيحة في عمله. ففي عام 2019، وقع على 'تعهد العطاء'، وهي حملة عالمية يقودها وارن بافيت وبيل وميليندا غيتس يتعهد أثرياء العالم من خلالها بالتخلي عن نصف ثرواتهم على الأقل في سبيل الأعمال الخيرية. وكان المئات من أثرياء العالم، من بينهم مارك زوكيربيرغ وإيلون ماسك وماكينزي سكوت، قد وقعوا على هذا التعهد الذي يشكل منصة لتضافر الجهود وتجميع الأفكار والمعارف بهدف الارتقاء بأدائهم في ريادة العطاء.

ويعد ابن حم أحد أصغر الموقعين سناً على هذا التعهد وواحد بين ثلاثة أشخاص أقدموا على هذه الخطوة من العالم العربي. ووصف ابن حم هذه الخطوة في خطاب 'تعهد العطاء' قائلاً أنها "فرصة للانضمام إلى مجموعة فريدة من رواد العطاء ولتنسيق الجهود من أجل التوصل إلى حلول لبعض أكثر التحديات إلحاحاً في عالمنا اليوم".

ويضيف ابن حم قائلاً: "لقد اتخذت هذه الخطوة لأنني أدركت الفوائد التي ستتأتى عنها. فالمبادرة عبارة عن شبكة عالمية تتضمن بحوثاً وموارد ومعارف يمكن مشاركتها بين أعضائها. أعتقد أنها ستحدث فرقاً كبيراً في طريقة تفكيرنا في العطاء وفي أعمال الخير التي نقدمها".

"نحن بحاجة إلى إنشاء مظلة عربية أو شرق أوسطية تجمع رواد العطاء بالأشخاص الذين يعملون في العطاء المنظّم ليتمكنوا معاً من استكشاف أفضل السبل الممكنة لتحقيق التغيير الإيجابي".

ونهج ابن حم هو انعكاس لما يشهده العالم العربي اليوم من موجة متنامية من رواد العطاء العرب الذين يجمعون بين نزعة حب العطاء السائدة في المنطقة من جهة والفكر العالمي الذي يركز على أهمية تحقيق التأثير الإيجابي القابل للقياس من جهة أخرى.

فالمانحون الأسخياء من أمثال أسرة جميل في المملكة العربية السعودية، التي تعمل مؤسستها الخيرية "مجتمع جميل" على النهوض بالصحة والتعليم وسبل العيش في جميع أنحاء العالم، وعبد العزيز الغرير من الإمارات العربية المتحدة الذي يرأس إحدى أكبر المؤسسات التعليمية الممولة من القطاع الخاص في المنطقة، باتوا ينتهجون سبلاً أكثر طموحاً وجرأة في العطاء من أجل تحقيق تغيير جذري شامل.

كما أننا نشهد تغيراً في النهج التقليدي لرواد العطاء العرب المتمثل في عدم الإفصاح عن عطائهم، وهي سمة لطالما كانت حجر عثرة في سبيل التعاون مع الآخرين. وبذلك باتت هذه التوجهات الجديدة مجتمعة تشجع المانحين من جميع الأطياف على التفكير بطريقة أكثر استراتيجية في القضايا التي يجب أن يوجهوا ثرواتهم إليها وأفضل السبل لتوظيف هذه الأموال في عمل الخير.

وبالنسبة لابن حم، يمثل هذا النهج الأكثر اتساقاً وانضباطاً في استثمار الأموال الخيرية تطوراً طبيعياً لالتزام العالم العربي الطويل الأمد بعمل الخير. لكنه كشف أيضاً عن فجوات في بيئة ريادة الأعمال، لاسيما بالنسبة للمانحين الناشئين الذين قد لا يعرفون على وجه اليقين من أين يبدؤون مشوارهم في العطاء.

ويقول ابن حم مستشهداً بأقوال الشيخ زايد، الرئيس المؤسس لدولة الإمارات، في العمل الإنساني والعطاء: "الإنسان غير خالد على هذه الأرض بل أعماله الصالحة هي الخالدة والباقية". ويضيف قائلاً: "أعتقد أن ثقافة العطاء متجذرة بعمق في كل فرد في دولة الإمارات العربية المتحدة، فنحن نسير على خطى قيادة الدولة. مع ذلك، يكمن التحدي في نقص البيانات والمعلومات المتاحة للمساعدة في توجيه رواد العطاء لاتخاذ قرارات سليمة ومستنيرة".

ويوضح أن هذا النقص يؤثر على الطريقة التي يتم من خلالها عمل الخير، مؤكداً أن الأشخاص الذين يمتلكون معرفة أكبر، يتمتعون بمستويات أفضل من الأداء.

ويوضح قائلاً: "يرى بعض رواد العطاء أن بناء المساجد هو طريقة مثلى لمساعدة المجتمعات المحلية. لا شك أن هذا أمر جيد، لكن إذا توفر لهؤلاء الرواد، على سبيل المثال، دراسات حول أعداد الأطفال المعرضين للإصابة بشلل الأطفال، فقد يختاروا حينها أن ينفقوا أموالهم أو جزء منها على اللقاحات أيضاً".

image title

الحملة التي تهدف إلى تغيير وجه العطاء

في أغسطس 2010، أطلق ثلاثة من كبار أثرياء العالم هم وارين بافيت وبيل وميليندا غيتس حملة 'تعهد العطاء'، آملين أن تنجح في إرساء معيار جديد للعطاء في العالم. والحملة التي تشكل حركة عالمية هي بمثابة دعوة مفتوحة لأثرياء العالم للالتزام بالتبرع بنصف أموالهم على الأقل للأعمال الخيرية، كما أنها تسعى إلى جعل العطاء الهادف والواسع النطاق القاعدة السائدة بين أكثر الأشخاص ثراءً في العالم.

وقد انطلقت هذه المبادرة بـ 40 تعهداً كان جميع الموقعين عليها من الأمريكيين. وبعد مرور عقد على إطلاق 'تعهد العطاء'، تضاعفت أعداد الأشخاص الذين انضموا إلى صفوفه لتشمل أكثر من 200 عضو من 24 دولة يشكلون مزيجاً من الأثرياء وأصحاب المليارات الناشئين الذين تتراوح أعمارهم بين الثلاثينيات والتسعينيات.

ولا يقبل 'تعهد العطاء' الأموال ولا يطالب الموقعين عليه بالتبرع بثرواتهم، غير أنه يمنحهم فرصة الوصول إلى شبكة من رواد العطاء الطموحين والشديدي الحماس لمشاركة الأفكار والنجاحات والإخفاقات، فضلاً عن مناقشة أفضل السبل للاستفادة من تبرعاتهم للتصدي لأبرز التحديات التي تواجه العالم.

وتشمل قائمة الموقعين على 'تعهد العطاء' الذي يتخذون من الإمارات العربية المتحدة مقراً لهم: المطور العقاري بي إن سي مينون وزوجته شوبا؛ وساني فاركي، مؤسس جيمس للتعليم، وزوجته شيرلي؛ وشمشير فاياليل، مؤسس "في بي إس الطبية" وزوجته شابينا؛ وبدر جعفر، الرئيس التنفيذي لمجموعة الهلال ورئيس شركة نفط الهلال وزوجته رزان المبارك التي ترأس هيئة البيئة - أبوظبي؛ ورجل الأعمال الإماراتي الشيخ الدكتور محمد بن مسلّم بن حم العامري. كما أن الأمير السعودي الوليد بن طلال هو أيضاً من الموقعين على 'تعهد العطاء' من المنطقة.

ويؤكد ابن حم أن العطاء يمثل منحنىً للتعلم بالنسبة له. فمن خلال عمله كنائب رئيس مجلس إدارة مجموعة بن حم، وهي مجموعة عائلية تنشط في قطاعات السياحة والرعاية الصحية والعقارات والهندسة وغيرها، يلعب ابن حم دوراً حيوياً في إدارة أعمال أسرته وفي أعمالها الخيرية كذلك.

ويتم توجيه تبرعات الأسرة من خلال مؤسسة مسلّم بن حم الخيرية، التي تركز على قضايا مثل الرعاية الصحية والإسكان والتعليم. ويتمثل الدور الذي تلعبه في مجال السكن على وجه الخصوص في توفير السكن للمحتاجين من المقيمين في دولة الإمارات العربية المتحدة وتخفيف أعباء الإيجار وإنشاء المدارس فضلاً عن تمويل الرعاية الصحية المجانية من خلال العيادة الطبية التابعة للمجموعة.

وفي وقت سابق من هذا العام، وفي ظل تفشي فيروس كورونا، خصصت الأسرة مبلغاً إضافياً قدره 10 ملايين درهم إماراتي (نحو 2.72 مليون دولار) لدعم الأسر ذات الدخل المنخفض التي وجدت نفسها في أزمة بسبب الوباء وتداعياته على سبل العيش. وجاءت استجابة الأسرة بعد قيام مؤسسة مسلّم بن حم الخيرية بدراسة مجتمعية حددت من خلالها الاحتياجات المحلية الأكثر إلحاحاً، وضعت الإسكان والتعليم من بين مجالات الاستجابة ذات الأولوية.

ويقول ابن حم: "لقد شهدنا ارتفاعاً سريعاً للغاية في الطلب على توفير السكن والدعم للتعليم في الأيام الأولى لانتشار الفيروس، ولذلك كان لزاماً علينا اتخاذ قرارات في الوقت المناسب. لقد تمكنا من تقديم الدعم لعدد كبير من الأشخاص خلال فترة زمنية قصيرة، وكانت الأزمة الناجمة عن جائحة كوفيد-19 مثالاً على نجاحنا في الخروج من الأزمة بنتائج إيجابية".

image title
مركز الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان للتغذية بالاسبيرولينا في كينيا. الصورة: تم تزويدها.

وتعد خدمة المجتمع في صميم ريادة العطاء بالنسبة لهذه الأسرة الإماراتية العريقة. فقد كان والد ابن حم، الشيخ مسلّم بن سالم بن حم العامري، وجده الشيخ سالم بن حم، من الشخصيات المؤثرة في السنوات الأولى لتأسيس للاتحاد حيث عملا عن كثب مع الشيخ زايد في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، سارت الأسرة على خطاهما وتمسكت بتقاليدها الإماراتية والإسلامية، إذ احتفظت بعلاقات وثيقة مع المجتمع المحلي وقدمت التبرعات والدعم على مستوى القواعد الشعبية.

"لقد تعلمت من والدي وجدي أن على رواد العطاء زيارة مجتمعاتهم وأن يكونوا قريبين منها وعلى اطلاع باحتياجاتها"، كما يشرح ابن حم، الذي يقول أن الدور الذي لعبه كعضو في المجلس الوطني الاتحادي في دولة الإمارات، قد عزز لديه هذا الفهم. ويضيف قائلاً: "تتغير الحياة باستمرار، ولذلك فإن مواكبة التغييرات والتطورات المجتمعية يعني أنك قادر على تلبية هذه الاحتياجات بشكل أفضل وفي الوقت المناسب".

ويأخذ عطاء ابن حم على الصعيد الشخصي بُعداً عالمياً كذلك، فإلى جانب دعمه للقضايا الإنسانية في دول مجلس التعاون الخليجي كرعايته لحفلات الزفاف الجماعية في عُمان والبحرين لتخفيف الضغوط المالية التي تواجه الشباب المقبلين على الزواج، يركز ابن حم أيضاً على قضايا مثل سوء التغذية والجوع.

فقد قدّم الدعم للمؤسسة الحكومية الدولية لاستخدام طحلب السبيرولينا الدقيق في مكافحة سوء التغذية (إمسام)، وهي منظمة حكومية دولية توزع طحلب السبيرولينا كمكمل غذائي على الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في الدول النامية.

وكان ابن حم حتى وقت قريب نائب الأمين العام لمنظمة إمسام وقد ساعدت مساهماته جنباً إلى جنب مع تبرعات رواد العطاء الخليجيين الآخرين، في دفع تكاليف إنشاء مركز الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان للتغذية بالاسبيرولينا التابع للمؤسسة في كيسومو في غرب كينيا. وقد قامت إمسام بتوزيع السبيرولينا في عدد من دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بالإضافة إلى عدد من دول الشرق الأوسط، من بينها الأردن والعراق.

ويقول ابن حم: "لقد كانت تغذية الأطفال إحدى القضايا التي رغبت في تعزيز معرفتي وخبرتي فيها. لقد رأيت فيها أولوية قصوى. نود أن نرى منحنى الجوع وسوء التغذية يتراجع عاماً تلو الآخر إلى أن نتمكن من القضاء على الجوع كلياً في كل مكان في العالم".

"يكمن التحدي في نقص البيانات والمعلومات المتاحة للمساعدة في توجيه رواد العطاء لاتخاذ قرارات سليمة ومستنيرة".

وعلى الرغم من أن ابن حم قد تخلى عن مهامه في مؤسسة إمسام إلا أنه لا يزال حريصاً على توسيع دائرة أعماله الخيرية في الخارج. وتعد الصحة العامة - وتحديداً حملات تطعيم الأطفال في دول مثل الهند وباكستان – من القضايا الجديدة التي قد تكون محط اهتمامه، فهو حريص على الابتكار والتعلم لمواكبة رواد العطاء الآخرين.

كما يرى ابن حم أن هناك فرصة لإقامة منصة إقليمية من شأنها أن تسمح للمانحين العرب بتجميع المعارف والتعلم من النظراء وفتح الباب للمزيد من التعاون بدلاً من بذل الجهود على المستوى الفردي فقط.

ويؤكد ابن حم على ذلك بالقول: "إن الإنجاز الحقيقي لمبادرة تعهد العطاء هو أنها تقوم بجمع رواد العطاء تحت راية واحدة، حتى يتمكنوا من مشاركة خبراتهم ووضع أهداف مشتركة تتجاوز قدراتهم الفردية". ويأمل أن تقوم المنطقة بجهود مشابهة إذ يقول: "نحن بحاجة إلى إنشاء مظلة عربية أو شرق أوسطية تجمع رواد العطاء بالأشخاص الذين يعملون في العطاء المنظّم ليتمكنوا معاً من استكشاف أفضل السبل الممكنة لتحقيق التغيير الإيجابي".

وقد بدأت محادثات المرحلة المبكرة بالفعل بين رواد العطاء المحليين، وفقاً لابن حم، الذي يحدوه الأمل بأن تشهد تقدماً، حيث يقول: "لقد أثبت لنا وباء كوفيد-19 أن العالم قرية صغيرة، وهذا يحتم علينا التعاون الوثيق مع بعضنا البعض من أجل التصدي لأكبر قدر من القضايا التي تؤرق عالمنا اليوم".

وينهي ابن حم حديثه بالقول: "إن حياة الإنسان قصيرة ولكنها لن تكون كذلك إذا استطاع أن يترك وراءه إرثاً يدوم لأجيال قادمة. ولذلك هناك الكثير من العمل الذي يتعين علينا القيام به". – PA

اقرأ المزيد