أفعال لا أقوال

مناصرة الشباب لدى اليونيسف، فرزانا فاروق جومو، تكرس جهودها لتوصيل الأصوات والحلول المناخية من الجنوب العالمي.

أصبحت ظاهرة الهجرة في بنغلاديش أسلوب حياة. فمنذ عقود من الزمن، تدفقت الأسر من مختلف أنحاء البلاد إلى العاصمة دكا سعياً وراء فرص العمل والتعليم التي غالباً ما تكون بعيدة المنال في المناطق الريفية. غير أنه في السنوات الأخيرة لم يكن الفقر وانعدام التنمية وحدهما ما يدفع الناس نحو الأحياء الفقيرة في العاصمة دكا بل برز تغير المناخ أيضاً كأحد الأسباب الرئيسية للهجرة.

وعلى الرغم من أن بنغلاديش تساهم بأقل من واحد بالمئة من الانبعاثات العالمية، إلا أنها تبرز كواحدة من أكثر دول العالم عرضة للآثار المترتبة على تغير المناخ. فقد أصبح ارتفاع منسوب مياه البحر يتسبب بفيضانات واسعة النطاق، الأمر الذي يؤثر على إمدادات المياه العذبة ويؤدي إلى تدمير المحاصيل والمراعي. وفي عام 2022 وحده، نزح أكثر من سبعة ملايين بنغالي بسبب الظواهر الجوية المتطرفة. فضلاً عن ذلك، تشير التوقعات إلى أنه بحلول عام 2050 سيضطر واحد من كل سبعة أشخاص في بنغلاديش إلى الانتقال للعيش في مكان آخر.

ويعد الأطفال والنساء الأكثر تضرراً من هذه الهجرات، لاسيما الفتيات اللواتي يتم إخراجهن من المدارس نتيجة لذلك، وفي الحالات القصوى يجدن أنفسهن مجبرات على العمل في الجنس وغيره من الممارسات الاستغلالية.

غير أن فرزانا فاروق جومو مصممة على تغيير هذا الوقع. فالشابة البالغة من العمر 25 عاماً هي إحدى المناصين الشباب لدى منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) وواحدة من أكثر من 80 ناشطاً وناشطة، تتراوح أعمارهم بين 11 و26 عاماً، تم اختيارهم من قبل الوكالة الأممية للدفاع عن حقوق الشباب على الساحة العالمية. وقد استغلت فرزانا هذه الفرصة لمناصرة قضية العدالة المناخية.

وقالت فرزانا  في حديث مع ’زمن العطاء‘: "لقد تعرّض كل طفل في بنغلاديش لشكل من أشكال الكوارث الطبيعية، ونحن جميعاً نشهد الآثار السلبية المترتبة على التلوث" مضيفة أن "ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة هو بالفعل حكم بالإعدام بالنسبة للبعض منا"، في إشارة إلى عتبة الارتفاع في درجة الحرارة المنصوص عليه في اتفاقية باريس لعام 2015.

ولا تطمح فرزانا، التي تتحدث بأسلوب مقنع وهادئ يفوق عمرها، إلى تثقيف أقرانها في بنغلاديش بشأن أزمة المناخ فقط، بل تسعى أيضاً إلى التأثير على صانعي السياسات. ويتمثل هدفها الرئيسي في تمهيد الطريق لمناصري قضية المناخ المستقبليين، وإعلاء أصواتهم من أجل رسم ملامح المستقبل وضمان إنفاق أموال المساعدات بحكمة.

"تعرّض كل طفل في بنغلاديش لشكل من أشكال الكوارث الطبيعية، ونحن جميعاً نشهد الآثار السلبية المترتبة على التلوث".

وتقول فرزانا في مقابلة على هامش مؤتمر الأطراف (COP28) الذي عقد مؤخراً في دبي أن التصدي لتغير المناخ يتطلب اتباع نهج شمولي موضحة أن "الأمر لا يتعلق فقط بزراعة شجرة أو إطفاء الأنوار. فالعمل المناخي ينطوي على فهم أعمق لكيفية ارتباط المناخ باقتصاد بلد ما، وأمور مثل الجغرافيا السياسية، وكل شيء آخر بينهما".

وكانت فرزانا من بين أكثر من 100 شخص من الناشطين الشباب الذين حضروا مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ لعام 2023 وشاركوا في اللجان والاحتجاجات وجلسات التفاوض والاجتماعات مع صانعي السياسات.

لكن فرزانا جاءت إلى مؤتمر بأهداف واضحة: ضمان تمثيل أصوات الشباب من الجنوب العالمي، والدعوة إلى تمويل أكثر انصافاً للخسائر والأضرار، والحث على اتخاذ إجراءات ملموسة بشأن تغير المناخ مثل التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري.

وفي مدينة إكسبو دبي المستشرفة للمستقبل، التي أنشأت في البداية لاستضافة معرض إكسبو 2020 ومن ثم أعيد استخدامها لاستقبال مؤتمر الأطراف (COP28) وتم بناؤها بمواد مستدامة وتستخدم فيها أكواب القهوة القابلة للتحلل الحيوي والمركبات الإلكترونية، تجد فرزانا نفسها في عالم مختلف تماماً عن موطنها والأحياء الفقيرة التي تعمل فيها في أغلب الأحيان. فهذه الأحياء الفقيرة تتحمل العبء الأكبر لآثار تغير المناخ والتقاعس العالمي عن التصدي لها مما يتسبب بمعاناة حقيقية للملايين من البشر.

وتشير فرزانا إلى أن "جميع مؤتمرات المناخ منفصلة بشكل عام عن الواقع. ففي خضم المناقشات التي تجري في أروقتها حول المبادرات الجذابة والخطابات الطنانة التي تلقى فيها، من المهم أن يدرك المشاركون أن الأمر يتعلق بشكل أساسي بحياة البشر – أي الأشخاص الذين لم يتسببوا بهذه المشكلات".

لكن رغم ذلك – والجدل الدائر حول انعقاد مؤتمر الأطراف (COP28) في دولة الإمارات العربية المتحدة، إحدى الدول المنتجة للوقود الأحفوري، وترأس سلطان الجابر، الرئيس التنفيذي لشركة أدنوك المملوكة للدولة المفاوضات، تشعر فرزانا بالحماس إلى حد ما بشأن نتائج الحدث.

image title
أم وأطفالها يجلسون في أحد الملاجئ للاحتماء من الفيضانات التي تسببت بها العواصف الشديدة التي ضربت منطقة سيلهيت في شمال شرق بنغلاديش خلال عام 2022. الصورة: سلطان محمود موكوت/اليونيسيف

ففي تطور مفاجئ في اليوم الأول للمؤتمر، أعلن الجابر عن إطلاق صندوق الخسائر والأضرار الذي طال الحديث عنه، بالتزامات تتجاوز 700 مليون دولار. ويهدف هذا الصندوق، الذي يديره البنك الدولي، إلى تقديم المساعدة الفنية والمالية إلى البلدان النامية المعرضة للآثار السلبية لتغير المناخ.

وفي حين تشعر فرزانا بالسعادة بإنشاء الصندوق، أعربت عن خيبة أملها حيال قيمة التعهدات، قائلة: "لقد صُدمت لأنهم يتحدثون عن ملايين الدولارات فقط في حين أن الناس بحاجة إلى المليارات".

يعد حجم الاحتياجات كبيراً بالفعل، فوفقاً لتقرير صدر عام 2022 عن مجموعة المعرضين العشرين (V20) وهي مجموعة تضم البلدان العشرين الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ، كانت هذه الدول ستصبح أكثر ثراءً بنسبة 20 بالمئة اليوم لولا تغير المناخ الذي كبّد اقتصاداتها تكلفة مذهلة بلغت 525 مليار دولار على مدى السنوات العشرين الماضية.

وفي هذه الدول، يواجه أكثر من مليار طفل مخاطر عالية بشكل استثنائي بسبب تغير المناخ. وقد تم تسليط الضوء على هذه المخاوف خلال مؤتمر الأطراف (COP28) مما دفع الحكومات والجهات المانحة من القطاع الخاص إلى تقديم تعهدات مالية كبيرة بهدف التخفيف من آثار تغير المناخ ومساعدة المجتمعات المحلية على التكيف.

وإحدى المساهمات المهمة جاءت من رائد العطاء الإماراتي عبدالله العبدالله، الرئيس التنفيذي للعمليات لمجموعة فنادق سنترال، الذي تبرع بمليوني دولار لليونيسيف لدعم استجابتها لأزمة المناخ في المجتمعات المعرضة للخطر.

وبالتزامن مع ذلك، أعلن صندوق المناخ الأخضر، بالتعاون مع الشراكة العالمية من أجل التعليم (GPE) ومنظمة إنقاذ الطفولة، عن إطلاق أكبر صندوق استثماري في العالم مخصص لبناء مدارس قادرة على التكيف مع المناخ في البلدان المعرضة للخطر برأس مال أولي قدره 70 مليون دولار.

"نحن رواد التكيف الذي تتم قيادته محلياً لأن هذه هي طريقتنا الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. في بنغلاديش، هذا جزء من ثقافتنا وليس مهارة تعلمناها من الكتب".

image title
فرزانا تشارك في احتجاج يطالب بالعدالة المناخية إلى جانب أقرانها من الناشطين الشباب وأعضاء حركة "أيام الجمعة من أجل المستقبل". الصورة: اليونيسيف

ويعود اهتمام فرزانا بالعمل المناخي إلى طفولتها التي شهدت خلالها تدفق الناس إلى المدينة حيث كانوا يروون قصصاً مروعة عن الخسائر المدمرة التي تعرضوا لها جراء الفيضانات والأعاصير التي ضربت بنغلاديش.

في سن التاسعة انتقلت فرزانا مع والديها وإخوتها الصغار إلى العاصمة دكا من قريتهم الزراعية في لاكشميبور، جنوب شرق بنغلاديش بحثاً عن فرص تعليمية أفضل. وبفضل وظيفة والدها الذي كان يعمل في الجيش آنذاك، حظيت فرزانا بطفولة مريحة وأقامت في مجمعات سكنية مسورة وارتادت مدارس ذات مستويات جيدة.

بدأت فرزانا العمل التطوعي خلال سنوات دراستها الجامعية مستلهمة بالامتيازات التي حظيت بها بسبب نشأتها، فقامت بتعليم الأطفال في الأحياء الفقيرة التي كانت تفتقر للتعليم الرسمي. وإلى جانب خدمات تعليم القراءة والكتابة، قدمت أيضاً الدروس حول موضوعات مثل حقوق الطفل وآثار تغير المناخ.

وفي تلك الفترة، علمت فرزانا عن حركة "أيام الجمعة من أجل المستقبل"، وهي حركة مهتمة بالمناخ يقودها الشباب انطلقت عام 2018 عندما قادت غريتا ثونبرغ، البالغة من العمر 15 عاماً آنذاك، سلسلة من الاعتصامات أمام البرلمان السويدي للفت الانتباه إلى تقاعس السياسيين عن التصدي لتغير المناخ.

وتتذكر فرزانا تلك الفترة فتقول: "لقد كان أمراً جديداً جداً ومثيراً للدهشة بالنسبة لي أن أعرف أنه يمكننا نحن الشباب أيضاً التحدث إلى حكومتنا وتوصيل أصواتنا لها".

ومن خلال حركة "أيام الجمعة من أجل المستقبل"، أتيحت لفرزانا الفرصة للتعاون مع قادة الحركة الشبابية من أجل المناخ، لا سيما غريتا ثونبرغ وفانيسا ناكاتي من أوغندا، ولويزا نيوباور من ألمانيا، وميتزي جونيل تان من الفلبين.

وقام هؤلاء الشباب معاً بتنظيم حملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكتابة الرسائل المفتوحة للحكومات والهيئات الدولية، وإطلاق مبادرة "أيام الجمعة من أجل المستقبل" (للتضامن مع الأشخاص والمناطق الأكثر تضرراً) في عام 2019.

وتصف فرزانا الحركة بأنها "تجمع يمنح ’مساحة آمنة‘ للناشطين، سواء أولئك الذين ينتمون إلى الجنوب العالمي أو الذين ينحدرون من دول الجنوب ويعيشون في الشمال العالمي أو الذين ينتمون إلى مجتمعات السود والسكان الأصليين وأصحاب البشرة الملونة ويشعرون أنهم غير ممثلين في الحملات الرئيسية".

"هذه هي الطريقة الوحيدة ولا توجد طريقة أخرى سوى المضي قدماً أو الإيمان بأننا قادرون على المضي قدماً".

image title
فرزانا، المناصرة الشبابية لدى اليونيسف والناشطة في مجال العدالة المناخية، خلال مشاركتها في مؤتمر الأطراف (COP28) في دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة. الصورة: دلال الشرهان

وفي عام 2021، تلقت فرزانا دعوة للمشاركة في كتابة مقدمة تقرير "أزمة المناخ أزمة في حقوق الأطفال: تبني مؤشر مخاطر المناخ على الأطفال" الصادر عن اليونيسيف، وفي العام التالي، تم تعيينها كإحدى المناصرين الشباب لدى اليونيسيف.

ومنذ ذلك الحين، تحدثت فرزانا في العديد من مؤتمرات المناخ الرفيعة المستوى على مستوى العالم، لا سيما مؤتمر الأطراف (COP27) في شرم الشيخ ومؤتمر الأطراف (COP26) في غلاسكو، الذي أبحرت إليه من ليفربول على متن سفينة ’غرينبيس رينبو واريور‘ Greenpeace's Rainbow Warrior ، وشاركت مؤخراً في مؤتمر الأطراف (COP28) في دبي.

وتقول فرزانا أنه في البداية كان والداها قلقين من أنها قد تضيع وقتها وتمتد نفسها جداً أثناء تحقيق توازن بين دراستها. ولكنها في النهاية نجحت في إقناعهم وتقول أنهما فخوران جداً بما تقوم به. وعلى الرغم من أنها تأتي من خلفية مسلمة محافظة، تقول فرزانا: "الآن، أنا ليس فقط أسافر إلى بلدان مختلفة، ولكنني أيضاً أعمل في داخل بنغلاديش، حيث أحاول أن أتفاعل مع الحكومة من خلال اليونيسيف".

وأحد الجوانب المهمة لمهمة المناصرين الشباب لدى اليونيسف ينطوي على سد الفجوة بين فهم تغير المناخ وتحديد الحلول المناخية، فضلاً عن المساعدة في تطوير مسارات للعمل المناخي.

وعلى الرغم من التحديات العديدة التي تواجهها بنغلاديش - إذ يقدر الخبراء أن البلاد بحاجة إلى إنفاق ما لا يقل عن 12.5 مليار دولار على تدابير التكيف مع المناخ بحلول عام 2025 - تؤكد فرزانا على القدرة الهائلة على الصمود التي تتمتع بها البلاد.

وتضيف قائلة: "لقد تكيفنا قبل الآخرين لأننا كنا نفعل ذلك منذ عقود أو أكثر... فنحن روّاد التكيف الذي تتم قيادته محلياً لأن هذه هي طريقتنا الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. في بنغلاديش، هذا جزء من ثقافتنا وليس مهارة تعلمناها من الكتب".

ومن بين هذه المبادرات مشاريع التشجير الساحلية، وزراعة المحاصيل القادرة على الصمود في مواجهة تغير المناخ، وإدارة الفيضانات وأنظمة الإنذار المبكر بقيادة المجتمعات المحلية.

وخلال مؤتمر الأطراف (COP28)، حظيت بنغلاديش بالتقدير لقيادتها في مجال العمل المناخي، وفازت بجائزة "أبطال التكيف المحلي" لتشجيعها للابتكار والقدرة على الصمود من خلال المبادرات التي تقودها محلياً. وتعد بنغلاديش أيضاً الوطن الأم لمنظمة ’براك‘ BRAC، وهي أكبر منظمة غير حكومية في العالم تعمل على توسيع نطاق الحلول المحلية ودعمها، مما يوفر للناس إمكانية الوصول إلى الأدوات والمعرفة حول التكيف والاستجابة لآثار تغير المناخ في مجتمعاتهم المحلية.

وأثناء تواجدها في جناح الشباب التابع لليونيسيف خلال مؤتمر الأطراف (COP28)، وهو مبنى صغير مكون من طابقين تم تخصيصه للناشطين الشباب وينبض بالحياة بأصوات الغناء والهتاف، تنقل فرزانا رسالة واضحة إلى زملائها الناشطين في مجال المناخ: "لا تفقدوا الأمل ... يمكن أن يكون الأمر مستنزفاً للطاقة للغاية وقد نشعر أحياناً باليأس الشديد ... ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة ولا توجد طريقة أخرى سوى المضي قدماً أو الإيمان بأننا قادرون على المضي قدماً". -PA