الأزمة الكوكبية الثلاثية

إنجر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، تتحدث عن أهمية الاستثمار في الحلول القائمة على الطبيعة لتحقيق التنمية المستدامة.

من المفترض أن يكون عام 2030 هو العام الذي يحقق فيه العالم أهداف التنمية المستدامة، فضلاً عن الأهداف الوطنية المنصوص عليها في اتفاق باريس، وأن يلتزم أيضاً بإطار كونمينغ-مونتريال العالمي للتنوع البيولوجي وغيره من الاتفاقيات المهمة.

وتشكل هذه الأطر العالمية المترابطة في جوهرها مخططاً شاملاً لرسم مستقبل أكثر إشراقاً للبشرية. مستقبل يتميز بالانسجام مع الطبيعة ومع بعضنا البعض. مستقبل من السلام والازدهار والأمل. مستقبل يتعايش فيه الناس معاً ويتعاونون ويزدهرون في تناغم ووئام.

أعي تماماً أن تحقيق كل ذلك قد يبدو طموحاً للغاية، أو يكاد يكون مثالياً، ولكن التجربة أثبتت أن التغيير الحقيقي نادراً ما ينتج عن التفكير على نطاق ضيق. فهدفنا ليس مجرد تحسين حياة عدد قليل من الأفراد بشكل طفيف وفي بعض الأوقات فقط بل تحسين نوعية الحياة وبشكل ملموس لجميع الناس وفي كل الأوقات. هذا هو الطموح وهذه هي التنمية المستدامة وهذا هو العمل الخيري.

ولن نتمكن من رسم مستقبل أكثر إشراقاً ما لم نتصد للأزمة الكوكبية الثلاثية برمتها وهي: أزمة تغير المناخ، وأزمة فقدان الطبيعة والتنوع البيولوجي، وأزمة التلوث والنفايات.

"هذا الأساس آخذ في التآكل؛ وبدأ ينهار تحت أقدام أشد الفئات فقراً وضعفاً في العالم، في وقت تستمر فيه الحسابات المصرفية للأثرياء في تكديس الثروات".

يشكل التمتع ببيئة سليمة الأساس الذي يجب أن تقوم عليه التنمية المستدامة: أي أن يكون لدينا محيطات سليمة، ومناخ سليم، وتربة سليمة، وغير ذلك الكثير.

لكن هذا الأساس آخذ في التآكل؛ وبدأ ينهار تحت أقدام أشد الفئات فقراً وضعفاً في العالم، في وقت تستمر فيه الحسابات المصرفية للأثرياء في تكديس الثروات.

ويفسر هذا التدهور البيئي جزئياً سبب خروج نحو 90 في المئة من أهداف التنمية المستدامة عن مسارها الصحيح، أو عدم تحقيقها أي تقدم، أو تراجعها.

وهذا أيضاً هو السبب الذي يجعل منظمتي، برنامج الأمم المتحدة للبيئة، باعتبارها السلطة البيئية الأولى في العالم، تركز على التصدي لهذه الأزمة الثلاثية.

لكن ما يزال علينا بذل الكثير من الجهود، فقد أصبح تغير المناخ حقيقة واقعة، وباتت آثاره المؤلمة واضحة لنا جميعاً - من العواصف والفيضانات إلى موجات الحر.

إن أفعالنا تدفع الطبيعة إلى أقصى حدودها، حيث يعيق فقدان التنوع البيولوجي وإلحاق الضرر بالنظم البيئية التقدم نحو تحقيق 80 في المئة من أهداف التنمية المستدامة المقررة. كما يتسبب التلوث في إزهاق الملايين من أرواح البشر والحيوانات كل عام.

مع ذلك، لا يجب علينا أن نيأس. فقد قمنا بوضع الخطط اللازمة للحفاظ على النظم البيئية البحرية والبرية واستعادتها وإدارتها بشكل مستدام؛ وتسريع التحوّل نحو الطاقة المتجددة خلال سعينا لوضع حد لفقر الطاقة؛ والقضاء على التلوث والنفايات، وأكثر من ذلك بكثير.

لكن حتى أفضل الخطط قد تتعثر، لا سيما إن لم تحظ بالتمويل الكافي. نعلم جميعنا أن أهداف التنمية المستدامة تعاني من نقص التمويل. كما أن الهدف 14 الذي يركز على الحفاظ على المحيطات يحظى بأقل مستوى من التمويل الطويل المدى مقارنة بجميع أهداف التنمية المستدامة الأخرى.

في الوقت ذاته، لا بد من مضاعفة الاستثمارات في الحلول القائمة على الطبيعة ثلاث مرات بحلول عام 2030 لتحقيق الأهداف المتعلقة بالمناخ والطبيعة وتحييد أثر تدهور الأراضي.

"تتمثل مهمتنا المشتركة في الوقت الحاضر في تعزيز فعالية العمل الخيري بحيث يصبح أكثر تأثيراً وكفاءة وسرعة. فنحن نسعى للوصول إلى عالم لا تكون فيه الاستدامة والانسجام والإنصاف مجرد شعارات رنانة بل مبادئ ترشدنا جميعاً في حياتنا اليومية".

ومن هذا المنطلق، أود أن أناقش ثلاثة مجالات تعاني من نقص التمويل يمكن لرواد العطاء توجيه مواردهم وجهودهم وقدراتهم في مجال الشراكة نحوها. ومن شأن هذه المجالات أن تخفف من الأزمة الكوكبية الثلاثية، وبالتالي تحقيق مكاسب كبيرة للتنمية المستدامة.

  1. إطار كونمينغ-مونتريال العالمي للتنوع البيولوجي

التزم العالم في إطار كونمينغ-مونتريال العالمي للتنوع البيولوجي بعدة أهداف، من بينها: وقف وعكس اتجاه فقدان التنوع البيولوجي، وحماية 30 في المئة من البيئات البرية والبحرية، واستعادة 30 في المئة من المناطق البرية والبحرية بحلول عام 2030، والحد من المغذيات الزائدة المفقودة في البيئة، وتقليل المخاطر الناجمة عن المبيدات الحشرية والمواد الكيميائية الخطرة، والتصدي للأنواع الغريبة الغازية، وغيرها الكثير.

ويتطلب تحقيق هذه الأهداف الحصول على تمويل كبير ويمكن التنبؤ به، كما يؤكد الهدف المتمثل في حشد 30 مليار دولار سنوياً للدول النامية بحلول عام 2030. وينبغي تخصيص هذا التمويل لمختلف المجالات حتى تتمكن الحكومات من تنفيذ الإجراءات التي دعا إليها إطار كونمينغ-مونتريال العالمي للتنوع البيولوجي.

وخلال اجتماع جمعية مرفق البيئة العالمية في أغسطس 2023 تم إطلاق الصندوق العالمي للتنوع البيولوجي بمساهمات أولية من كندا والمملكة المتحدة. لكن لا بد لنا أن نبدأ بتجديد موارد هذا الصندوق بشكل عاجل لنتمكن من الشروع في التنفيذ الجاد لهذه الأهداف. 

  1. تنفيذ اتفاق عالمي للقضاء على التلوث البلاستيكي

أصبح التلوث البلاستيكي منتشراً وضاراً على نحو متزايد. ففي كل عام، تدخل ملايين الأطنان من التلوث البلاستيكي إلى البيئات البحرية، مما يشكل تهديدات للصحة بسبب المواد الكيميائية الضارة. علاوة على ذلك، يساهم اقتصاد البلاستيك التقليدي وغير المستدام في تغير المناخ من خلال الانبعاثات التي يولدها.

والخبر السار هو أنه قد أصبح لدينا اليوم مسودة أولية قيد الدراسة لاتفاق يهدف إلى القضاء على التلوث البلاستيكي. ومن المقرر أن يبدأ المفاوضون في النظر في التفاصيل في نيروبي في نوفمبر من هذا العام سعياً للموافقة عليه بحلول عام 2024.

وتتضمن المسودة الأولية جميع العناصر الضرورية لوضع حد للتلوث البلاستيكي وتعزيز بيئة أنظف، وخلق وظائف لائقة وإطلاق العنان لفرص عمل حقيقية. وتشمل هذه العناصر القضاء على المنتجات البلاستيكية الإشكالية وغير الضرورية؛ وإعادة تصميم المنتجات وتعبئتها وتغليفها لتقليل استخدام البلاستيك؛ تيسير ممارسات إعادة الاستخدام والتعبئة والإصلاح وإعادة التدوير؛ والتحول إلى بدائل آمنة؛ وتحسين إدارة النفايات والتخلص منها بطريقة سليمة بيئياً.

ولذلك فإنني أدعو المفاوضين إلى وضع أهداف وجداول زمنية طموحة. وأحث القطاع الخاص أيضاً على الشروع في الابتكار على الفور، مع التركيز على التخلص من المواد البلاستيكية والمواد الكيميائية الضارة. كما أدعو إلى توفير الموارد المالية اللازمة لتنفيذ هذا الاتفاق.

وفي حين يتعين على الحكومات والقائمين على صناعة البلاستيك قيادة هذه الجهود، من المحتم أن تكون هناك فجوات. إننا بحاجة إلى التضامن وحشد الدعم والتمويل من أجل التأكد من انتقال عادل يبقي الأفراد مثل جامعي النفايات في صميم هذه الجهود. ويعد الاستثمار في إدارة النفايات الصلبة أمراً بالغ الأهمية، وبطبيعة الحال، نحن بحاجة إلى القيام باستثمارات من أجل تنظيف التلوث القديم لمنع استمرار وصوله إلى سواحلنا لعقود قادمة. 

  1. التكيف مع تغير المناخ

كما ذكرت سابقاً، لقد أصبح تغير المناخ حقيقة واقعة. فبالكاد يمر يوم دون أن تسفر أحداث مرتبطة بتغير المناخ عن خسائر في الأرواح وتدمير للممتلكات وسبل العيش.

ولذلك لا بد أن يتخذ إجراءات فورية بشأن التكيف. ويمكن القيام بذلك من خلال: الاعتماد بشكل كبير على الموارد الطبيعية؛ والاستفادة من المعارف التقليدية؛ واستعادة النظم البيئية وإدارتها؛ وإصلاح النظم الغذائية لحماية سبل العيش وتعزيز الأمن الغذائي؛ وإعطاء الأولوية للإنذار المبكر والتأهب؛ وجعل المدن والبنى التحتية قادرة على الصمود في وجه تأثيرات المناخ.

علينا أن ننظر بعناية في المشاريع التي تعزز القدرة على التكيف مع تغير المناخ وفي الوقت نفسه الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة. وقد أثبت الحلول القائمة على الطبيعة، مثل استعادة النظم الإيكولوجية الساحلية، فعاليتها بشكل خاص، لأنها لا تقوم بعزل الكربون فحسب، بل تقدم أيضاً جميع أشكال خدمات التكيف، لا سيما الحماية من الظواهر الجوية المتطرفة.

ولتحقيق هذا الهدف، سنحتاج إلى أكثر من 300 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2030. فالفجوة التمويلية كبيرة وتدفقات الأموال للدول النامية من أجل التكيف أقل بخمس إلى عشر مرات من المتطلبات المقررة، وهذه الفجوة مستمرة في الاتساع. ولا بد أن يتم الحصول على هذا التمويل من مصادر مختلفة، بما في ذلك الأعمال الخيرية، وأن يتم توجيهه بشكل فعال من خلال الأطر الدولية والوطنية.

image title
بقرة تبدو على حافة الموت جوعاً بسبب الجفاف المتكرر والشديد في ماليمين، كينيا. الصورة: برنامج الأمم المتحدة للبيئة/نعيم أحمد يوسف.

لقد شهدنا بالفعل أمثلة عديدة لرواد عطاء مهتمين في مجال البيئة وهم يقودون التغيير. وأشيد هنا بمعهد المحيط التابع لمؤسسة ’فيلوكس‘ Velux Foundations، الذي يركز على استعادة البيئة البحرية والنظم البيئية البحرية وتعزيز الاقتصادات الزرقاء المستدامة. ويتوافق هذا مع أهداف عقد استعادة النظم الإيكولوجية وعقد علوم المحيطات.

كما أن الصندوق العالمي للشعاب المرجانية، الذي يشترك في رئاسته برنامج الأمم المتحدة للبيئة والمملكة المتحدة، هو تحالف ملتزم بالحفاظ على الشعاب المرجانية واستعادتها، فضلاً عن تعزيز قدرة المجتمعات الساحلية التي تعتمد عليها على الصمود. بالإضافة إلى ذلك، حققت مؤسسة ’تومبكينز كونزيرفيشن‘ Tompkins Conservation، التي شارك في تأسيسها الرؤساء التنفيذيون لشركتي ’نورث فيس‘ North Face و’باتاغونيا‘ Patagonia، خطوات كبيرة في جهود استعادة الحياة البرية وإنشاء مناطق بحرية محمية، وغير ذلك الكثير.

لقد قدم روّاد العطاء الكثير من المساهمات. مع ذلك، وكما هو الحال دائماً، نأمل أن يقدموا المزيد. ولذلك يسعى برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى تعميق تعاونه مع قطاع العمل الخيري.

ومن خلال برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومختلف الاتفاقيات والهيئات البيئية المتعددة الأطراف التي يستضيفها، حققت الدول الأعضاء وأصحاب المصلحة الآخرون، لا سيما رواد العطاء، تقدماً ملموساً. ويشمل هذا التقدم إصلاح ثقب الأوزون؛ والتخلص التدريجي من البنزين الذي يحتوي على الرصاص؛ واتخاذ الخطوات الأولية للتصدي لقضايا مثل تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث.

لقد أثبت نظام تعدد الأطراف فعاليته، وأظهر العمل الخيري مدى تأثيره، لكنهما يعملان بشكل أفضل عندما يجتمعان معاً.

يمكن لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أن يساعد المؤسسات الخيرية في تحقيق أهدافها وتسريع عملية بدء الاستثمار. ويمكنه أيضاً تسهيل مشاركة المؤسسات الخيرية في المنتديات الدولية وفي التواصل مع خبراء البيئة. وما عمل لجنة التفاوض الحكومية الدولية المعنية بإنهاء التلوث البلاستيكي إلا نموذج حي على ذلك.

علاوة على ذلك، يمكن لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أن يوفر للمؤسسات الخيرية إمكانية الوصول إلى شبكات أقرانه وتحالفات الشركاء، لا سيما وكالات الأمم المتحدة والأوساط الأكاديمية وأصحاب المصلحة الآخرين في مجال البيئة. وهذا التعاون بين المؤسسات الخيرية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة يؤدي إلى النهوض بجهود الدعوة، وتعزيز المصداقية، وتوسيع نطاق تأثير هذه المؤسسات.

تتمثل مهمتنا المشتركة في الوقت الحاضر في تعزيز فعالية العمل الخيري بحيث يصبح أكثر تأثيراً وكفاءة وسرعة. فنحن نسعى للوصول إلى عالم لا تكون فيه الاستدامة والانسجام والإنصاف مجرد شعارات رنانة بل مبادئ ترشدنا جميعاً في حياتنا اليومية.

وهذا ليس مجرد حلم وإنما رؤية وخطة وهدف لا بد أن نسعى جميعاً لتحقيقه. ويعتمد الوصول إلى هذا الهدف على التزامنا الثابت بالحفاظ على بيئة سليمة.