بقاءٌ عريق

كيف سخَّرت الإمارات هذا المصنع الطبيعي الفائق لتحقيق صافي انبعاثات صفرية

سيتم زراعة عشر أشجار القَرْم (مانغروف) لكل واحد من الحاضرين في مؤتمر الأطراف للمناخ COP28 لهذا العام ليشكِّل ذلك جزءًا من التزامات دولة الإمارات العربية المتحدة الواسعة النطاق التي تنتهجها لتسخير الطبيعة في خفض مستويات انبعاثات الكربون في الغلاف الجوي.

ترصد التوقعات وصول ما يقرب من 80,000 شخص إلى دولة الإمارات العربية المتحدة لحضور اجتماع مؤتمر الأمم المتحدة، الذي سيبدأ في 30 نوفمبر، ومع ذلك التزمت هيئة البيئة في أبو ظبي (EAD) بتقليل البصمة الكربونية لزوار المؤتمر من خلال زراعة 800,000 من أشجار القَرْم كجزء من مبادرة "غرس الإمارات".

وستزرع الأشجار في المناطق الساحلية للدولة الخليجية، بما في ذلك محمية مروح البحرية للمحيط الحيوي، ومدينة المرفأ، وجزيرة الجبيل. كما أنَّ 85 في المائة من أشجار القرم في دولة الإمارات العربية المتحدة تتخذ من أبو ظبي موطناً لها.

وقالت الأمين العام لهيئة البيئة، شيخة سالم الظاهري: "تهدف هذه المبادرة لدعم الهدف 13 من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة المتعلق "بالعمل المناخي" والذي يحث على اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لتغير المناخ والتكيف آثاره".

وهو أيضاً جزء من جانبٌ مما تضعه الإمارات نصب عينيها لأنَّه "الرئة الخضراء" للأرض، حيث تستهدف الدولة زراعة 100 مليون شجرة قَرْم بحلول عام 2030. وتمَّ الإعلان عن تَعهُّد "غرس الإمارات" في شهر سبتمبر، وهو نفس الشهر الذي أيدت فيه الإمارات مبادرة نشر غرس أشجار القَرْم العالمية في مؤتمر قمة الطموح المناخي التي انعقد في نيويورك من الشهر نفسه.

تم إطلاق مبادرة "تنمية القَرْم" في مؤتمر الأمم المتحدة للتغيُّر المناخي COP27 في مصر، وهذه المبادرة عبارة عن تعاون بين التحالف العالمي لأشجار القَرم (GMA) وأبطال الأمم المتحدة رفيعو المستوى في مجال العمل المناخي. تنضم دولة الإمارات العربية المتحدة إلى قائمة متزايدة من الحكومات والشركات والمنظمات غير الربحية التي تدعو إلى الاستثمار العالمي لتأمين مستقبل غرس أكثر من 15 مليون هكتار من أشجار القَرْم بحلول عام 2030.

وقالت وزيرة التغيُّر المناخي والبيئة، مريم المهيري، بعد موافقة دولة الإمارات العربية المتحدة الرسمية على الانضمام إلى المبادرة: "تدرك دولة الإمارات الأهمية القصوى لأشجار القَرْم في مكافحة تغيُّر المناخ ودعم مجتمعاتنا الساحلية، ونتطلع إلى المساعدة في إحداث تغيير حقيقي على أرض الواقع." وأضافت معالي الوزيرة: "أدعو جميع دول العالم إلى دعم هذه المبادرة الفريدة".

من المعروف أن غابات القَرْم الدائمة الخُضرة تمتص كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء، حيث تشير الدراسات إلى أنَّ هذه الأراضي الرطبة التي غمرتها الفيضانات قادرة على تحييد غاز الكربون بأربع مرات أكثر مما تقدر النظم البيئية الأرضية على فعله، والمثال عنها الغابات المطيرة.

بفضل ما يتمتَّع به القَرْم من نظام الجذور المتشابك الذي يقوم بتصفية وامتصاص الشوائب قبل أن تصل إلى الماء، والتربة المشبعة بالمياه التي تحبس الكربون لآلاف السنين، اعتبرت عملية تنقية الماء والهواء بمثابة عمل سحري بيئي أثبت أهميته في العمل الدؤوب لمحاربة التغيُّر المناخ.

تشكِّل أشجار القرم الرمادية – والتي يطلق عليها باسم "افيسينيا مارينا" - النوع السائد من أشجار القَرْم في دولة الإمارات العربية المتحدة والمعروفة بمقاومتها للملوحة العالية ودرجات الحرارة المرتفعة. وفي ظل التوقعات المناخية الحالية التي تتنبأ بارتفاع درجات الحرارة في المنطقة، فإن مرونة هذه الأشجار في مواجهة الظروف غير الملائمة على نحو متزايد يمكن أن تكون الحل المثالي بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة للوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالوصول إلى صافي الانبعاثات الصفرية.

بفضل برامج التشجير المكثفة التي أطلقها الرئيس المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ زايد، في السبعينيات، أصبحت الإمارات العربية المتحدة بالفعل موطنًا لأكثر من 60 مليون شجرة قَرْم تغطي مساحة أكثر من 183 كيلومتر مربَّع من المناطق الساحلية للبلاد، مما حقق امتصاص ما يقدر بنحو 43,000 ألف طن من غاز ثاني أكسيد الكربون كل عام.

ومن شأن زراعة 100 مليون شجرة قَرْم أخرى أن تزيد المساحة الإجمالية المزروعة إلى 483 كيلومتر مربَّع، قادرة على امتصاص 115,000 ألف طن من غاز ثاني أكسيد الكربون سنوياً.

لا تشكِّل هذه الغابات الساحلية مصدر طبيعي فعّال لامتصاص الكربون فحسب، ولكنَّها تقوم أيضًا بمهمة حيوية في حمايتها للشواطئ والنظم البيئية. توفر المياه المحمية الغنية بالمغذيات موطناً مثالياً لتكون حاضنة طبيعية، مما يعني أن أشجار القَرْم هي أرض خصبة لنمو الربيان وسرطان البحر وأنواع أخرى من الأحياء البحرية التي أثبتت أهميتها الأساسية لصناعة الصيد في المنطقة. وتشير التقديرات إلى أن 80 في المائة من صيد الأسماك العالمي يعتمد على أشجار القَرْم.

"ندرك الأهمية القصوى لأشجار القَرْم في مكافحة تغيُّر المناخ ودعم مجتمعاتنا الساحلية."

مريم المهيري، وزيرة التغيُّر المناخي والبيئة في دولة الإمارات العربية المتحدة

image title
نظام الجذور المتشابك يقوم بتصفية وامتصاص الشوائب قبل وصولها إلى الماء، والتربة مشبعة بالماء تحتجز الكربون لآلاف السنين، تعتبر أشجار القَرْم أداة حيوية لتحقيق الصافي الصفر. الصورة: شاترستوك.

وخلال مؤتمر الأطراف للمناخ COP28، ستستضيف دولة الإمارات العربية المتحدة أيضًا اجتماعًا وزاريًا رفيع المستوى حول أشجار القَرْم كجزء من 'يوم الطبيعة والمحيطات واستخدام الأراضي'. يأمل المضيفون أن يؤدي ذلك إلى إعلانات كبيرة ترتكز على خطة قائمة على العلم وتتجه نحو العمل لتحقيق الأهداف.

وقالت الوزيرة المهيري: "يهدف الاجتماع الوزاري لأشجار القَرْم إلى تشكيل مسار قوي لتطوير الحلول القائمة على الطبيعة وإحداث تغيير جوهري في جهودنا الجماعية لمكافحة تغير المناخ، وسيركز على تسريع التمويل والسياسات والتكنولوجيا لتحقيق أهداف مبادرة ’تنمية القَرْم‘ Mangrove Breakthrough المتمثلة في استعادة وحماية 15 مليون هكتار من أشجار القرم بحلول عام 2030، فضلا عن وقف تدميرها".

يكمن الابتكار في قلب استراتيجية غرس أشجار القرم في دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي بحيرة المرفأ في أبو ظبي، تقدم تقنيات الزراعة باستخدام الطائرات بدون طيار عالية التقنية لمحة عن كيفية خطط الدولة للوصول إلى أهدافها في غرس أشجار القَرْم.

مشروع الكربون الأزرق (The Blue Carbon Project) هو عبارة عن تعاون بين شركة الطاقة انجي (Engie)، وشركة التكنولوجيا ديستانت ايمجري (Distant Imagery)، وهيئة البيئة - أبوظبي. بعد إجراء تحليل شامل للخرائط لتحديد مواقع الزراعة المثالية عبر البحيرة، تقوم المروحيات المتعددة الدروع للرفع الثقيل بإسقاط البذور من الأعلى.

للطائرة المسيَّرة القدرة على حمل ما يصل إلى 25 كيلوغرام من البذور، وفي المناطق التي من المعروف أن الأرض صلبة فيها، تم تغليف البذور بالعناصر الغذائية لضمان قدرتها على اختراق التربة. منذ عام 2020، تمَّ زراعة أكثر من 50,000 بذرة من أشجار القَرْم باستخدام هذه التقنية.

ترى دولة الإمارات العربية المتحدة أيضًا زيادة الوعي بشكل أوسع حول هذا الموضوع أمرًا رئيسيًا لضمان أن الجيل القادم يكون على دراية بأهمية تقنيات التخفيف من تغير المناخ القائمة على الطبيعة، وقد يكون مصدر إلهام لهم ليساهموا في ذلك. ونُظمت برامج تعليمية وحلقات عمل وفعاليات لإشراك الجمهور وتعزيز جهود الحفاظ على البيئة.

ومن بين هذه الفعاليات، التي أطلقتها هيئة البيئة – أبوظبي بالشراكة مع مجموعة تيكوم وجمعية الإمارات للطبيعة بالتعاون مع الصندوق العالمي للطبيعة، غرفة هروب بديعة (escape room) تحمل عنوان "أشجار القَرْم" والتي ستتجول في البلاد. وبعد بدء جولتها المحلية في مدينة دبي، من المتوقع أن ترحب غرفة الهروب بآلاف الزوار الذين سيتم تشجيعهم على المضي للاشتراك في برامج علم المواطنة التي تقدمها هيئة البيئة - أبو ظبي.

وقالت شيخة سالم الظاهري من هيئة البيئة - أبو ظبي: "إن مبادرات مثل غرفة الهروب ’الهروب من التغير المناخي - نسخة القرم‘ توفر فرصة لشباب الإمارات ولأفراد المجتمع، للتعرف على أهمية الحلول القائمة على الطبيعة في مواجهة تغير المناخ والتعقيد الذي ينطوي عليه لبناء المرونة المناخية، وتمكينهم من المشاركة وتقديم مساهمات أكبر نحو المناخ والطبيعة، من خلال المشاركة ببرامج المواطن والعمل التطوعي".

وقالت ليلى مصطفى عبد اللطيف، المدير العام لجمعية الإمارات للطبيعة، إِنَّ غرفة الهروب توفر تجربة مهمة مصممة لجذب المزيد من الاهتمام بأزمة التغير المناخي والتحديات التي تواجهها الطبيعة، وتحفيز المشاركين ليكونوا جزءًا من الحل والحفاظ على البيئة على أرض الواقع."

أمّا اليوم، فلا يملك العالم سوى نصف العدد الأصلي لأشجار القَرْم، والتي لم يتبق منها سوى مساحة 14 مليون هكتار مزروعة. وبالإضافة إلى جاذبيتها لإتاحة أربعة مليارات دولار من التمويل المستدام، فإن مبادرة نشر غرس أشجار القَرْم تعطي الأولوية لوقف استنزاف هذه الأشجار، واستعادة النصف من كل ما تمَّت خسارته أشجار القَرْم مؤخَّراً، ومضاعفة حماية أشجار القَرْم الموجودة حالياً. –PA