دعاة التغيير

تتولى صاحبة السمو الملكي الأميرة البندري بنت عبدالرحمن الفيصل منصب المديرة العامة لمؤسسة الملك خالد الخيرية في المملكة العربية السعودية. تُحدثنا الأميرة في هذه المقابلة الخاصة عن مواطن الفشل في العمل الخيري، ومشاكل رعاية الشباب، والمشهد المتغير لعمل الخير في أكبر اقتصادات منطقة الخليج.




للمملكة العربية السعودية سجل حافل بالعطاء والإحسان وعمل الخير على نطاق واسع. لكن مع ذلك، فإن المؤسسات والمنظمات غير الربحية العاملة في المملكة، والتي تشكل البنية التحتية للعطاء، تكافح لترتقي إلى المستوى المطلوب. وهنا يأتي دور مؤسسة الملك خالد الخيرية، ومقرها الرياض، كواحدة من الجهات التي تحاول تصويب هذا الخلل. أبصرت المؤسسة النور عام 2001، وهي تحاول المساهمة في تطوير القطاع غير الربحي الناشئ في المملكة وتنميته، لكي يكون على قدر المسؤولية التي تتطلبها التحديات الوطنية، وليؤدي دوره في الإقناع والتأثير من أجل تحقيق التغييرات الاجتماعية والاقتصادية المنشودة. ومع أن الدرب ما يزال طويلاً، بحسب تقدير المديرة العامة لمؤسسة الملك خالد الخيرية، صاحبة السمو الملكي الأميرة البندري بنت عبد الرحمن الفيصل، إلا أن التغيير يتحقّق وإن كان بشكلٍ تدريجي.

س. تتولى مؤسسة الملك خالد الخيرية مهام متنوعة وواسعة النطاق، فكيف تقيسون نجاحكم؟

لقد تبنينا مهمة تغيير مشهد عمل الخير في المملكة. فإذا ما تأمّلت بما كان عليه حال القطاع منذ عشر سنوات، للاحظت أنه تغيّر على نحوٍ هائل. عندما بدأنا، كان مصطلح "القطاع غير الربحي" نفسه غير معروف هنا.

في ثاني جلسات نقاشاتنا التنموية السنوية، قبل نحو أربع سنوات، تحدّثنا عن مشكلة ضعف تمثيل القطاع غير الربحي في أجندة التنمية الوطنية في المملكة، وعدم التشاور معه بالقدر الكافي. في البداية، كانت وزارة التخطيط مشكّكة بالأمر ومترددة، لكننا أقنعناها بضرورة إشراكنا في المناقشات. 

واليوم، يعتبر القطاع غير الربحي محورياً في الخطة الاقتصادية الحكومية، المعروفة برؤية 2030. وقد طُلب منا المساهمة في عملية تخطيط السياسات. في الوقت الحالي، يشكّل القطاع غير الربحي أقل من واحد بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، والهدف هو رفع هذه النسبة إلى 5 بالمئة، لذا من الواضح أن الحكومة باتت مقتنعة بأهمية العمل الذي ننجزه. 

غالباً ما تكون عملية قياس النجاح في عملنا صعبة. فإذا كنا نعمل على مسألة توظيف الشباب مثلاً، سيكون من السهل قياس تأثيرنا، إذ يمكننا تحديد عدد الشباب الذين حصلوا على وظيفة، واستمروا فيها. ومع أنّ بعض الجوانب الأخرى في عملنا ليست ملموسةً إلى هذا الحدّ، إلا أنني على يقين من أنّ مؤسسة الملك خالد الخيرية قد أدّت دوراً أساسياً في التحفيز على التغيير في قطاعنا. 

س. كيف تغيرت المقاربة التي تعتمدها المؤسسة منذ إنشائها؟ 

لقد تعلّمنا من خلال التجربة والخطأ. بدأت المؤسسة عملها من خلال تقديم المنح المالية، وكان هدفنا في بادئ الأمر العمل مع الشركاء المحليين في المجتمعات الريفية على المشاريع التنموية. لكننا فشلنا فشلاً ذريعاً. كنا كمن يتحدّث بلغاتٍ مختلفة. فمؤسسة الملك خالد الخيرية كانت تتحدّث عن العمل في إطار الاستدامة والتأثير، في حين كان نهج المنظمات غير الربحية مبني على إعطاء المنح النقدية والتصدّق بالأموال. نتيجةً لذلك، أوقفنا كافة الأنشطة المتعلقة بالمنح، وركّزنا على مدى السنتين التاليتين على بناء قدرات المنظمات غير الحكومية المحلية والمساعدة في تغيير العقلية السائدة.

كان ذلك قبل عشر سنوات. لكننا أعدنا تقديم المنح شيئاً فشيئاً، وأصبح هذا الأمر يشكّل جزءاً متزايداً مما نفعله اليوم. خلال يومين فقط من هذا الأسبوع، أبرمنا 20 اتفاقاً لتقديم المنح. تتراوح قيمة المنحة عادةً بين 100 ألف و750 ألف ريال سعودي، لكن الأهم في نهاية المطاف هو نوعية المنح وليس حجمها. فالعديد من المنظمات المحلية لا تعرف كيف تقدّم طلباً للحصول على منحة، أو إعداد خطة عمل أو ميزانية، أو حتى تقديم تقارير الإنجاز فيما بعد. ونحن نريدهم أن يكتسبوا هذه المهارات، وسنساعدهم في تحقيق ذلك. نعتقد أنّ مقاربتنا تعني أنّ المنظمات غير الربحية ستكون أكثر استعداداً بكثير لجمع التبرّعات وترشيد إنفاقها في المستقبل.

وأنا بدوري تغيّرت كثيراً. لقد تحدّاني والدي كي أكون طموحة ومعطاءة. ومع أنني كنت أريد أن أساهم في عمل المؤسسة، إلا أنني لم أرغب في أن أكون المديرة. تعرّضت لبعض الضغط فوافقت أخيراً على مضض. مع ذلك، وعلى امتداد السنوات، تعلّمت من فشلنا أكثر مما تعلمته من نجاحاتنا. وتعلّمت أيضاً أنّ التخلي عن الأنانية والاعتداد بالنفس، سواء على مستوى الفرد أو المؤسسة، يساهم بشكل ملحوظ في نسج شراكاتٍ ناجحة.

"بشكلٍ عام، سيكون تأثيرنا كمؤسسة محدوداً طالما أن النظام التربوي في البلاد لا يؤدي وظيفته. فعمل الخير أشبه بضمادة توقف النزيف لكنها لا تساعد المريض".

س. هل هناك مشروع محدد أو جهة مستفيدة من عملكم تفخرين بها؟

نعم، هناك الكثير. لكن هناك مشروع محدد أحب أن أذكره، كان قد تم تطويره استجابة لمشكلة التسرب المدرسي الذي بلغ معدلات عالية في المنطقة الشرقية في السعودية. فقد طلبت إحدى المنظمات الحصول على منحةٍ لمعالجة هذه المشكلة، تبيّن على أثرها أنّ مستوى القراءة بين الأهل كان ضعيفاً، وبالتالي، لم يكونوا قادرين على مساعدة أولادهم في إنجاز واجباتهم المدرسية. نتيجةً لذلك، كان أداؤهم ضعيفاً بالمقارنة مع زملائهم، ما أصابهم بالحرج ودفعهم في نهاية الأمر إلى ترك مقاعد الدراسة.

على ضوء ذلك، ساعدنا في تطبيق برنامج بعد انتهاء دوام المدارس، يساعد التلاميذ على رفع مستوى مهاراتهم في القراءة والكتابة. كان الحل بسيطاً جداً، لكنه غيّر حياتهم وحياة أسرهم. وهذا النوع من المشاريع يجعل عملنا قيّماً ومجدياً جداً.

س. واحدة من القضايا الرئيسية التي تركّز عليها مؤسسة الملك خالد الخيرية هي بطالة الشباب في المملكة والتي يصل معدّلها إلى 11 بالمئة. فكيف تتعاملون مع هذه المشكلة الصعبة؟

هذا هو حديث الساعة. وغالباً ما يكون موضوع نقاشاتنا، لاسيما أن لدينا برنامجاً لمكافحة بطالة الشباب يشمل تدريبهم وتهيئتهم للحصول على وظيفة. لكن في ظلّ المناخ الاقتصادي الحالي، لا يسعى أرباب العمل إلى تعيينات جديدة، ما يضع أمامنا تحدياً من نوع آخر، ولم تكتمل بعد رؤيتنا لأفضل طريقة للتعامل مع هذه المشكلة الإضافية. لكن بشكلٍ عام، سيكون تأثيرنا كمؤسسة محدوداً طالما أن النظام التربوي في البلاد لا يؤدي وظيفته. فعمل الخير أشبه بضمادة توقف النزيف لكنها لا تساعد المريض. والنظام التربوي السعودي هو المشكلة الواضحة التي يدرك الكلّ وجودها لكن يبدو أن أحداً لا يستطيع حلّها، وهي تفوق طاقتنا كقطاع.

image title
يتم توفير المزيد من التدريب للشباب السعودي بهدف الحد من مشكلة البطالة. الصورة: فايز نورالدين/ وكالة الصحافة الفرنسية/غيتي إميجيز.

س. هل تدعو الحاجة إلى مزيد من الدعم لمساعدة السعوديين الشباب على التنافس في سوق العمل؟

كشف لنا برنامج "شبابنا.. مستقبلنا"، الذي ننفذه بالشراكة مع صندوق تنمية الموارد البشرية على مدى ثلاث سنوات، عن ناحية مهمة. وهي أن نظرة الشباب للعمل وسلوكهم وتطلعاتهم هي العنصر المفقود في المعادلة. فالمهارات الاجتماعية أو الشخصية والتحلي بالسلوك الحسن وأخلاقيات بيئة العمل هي أمور من الضروري توفرها. ومع أن المؤهلات العلمية أساسية، لكن الاهتمام الحقيقي والرغبة في العمل لا يقلان عنها أهمية. وفي ظلّ شح الوظائف، هذه هي المهارات التي ستساعد الشباب في حياتهم المهنية والشخصية. 

لكن بالمقابل، فإنه من الضروري أيضاً أن يتحلى أرباب العمل بالنظرة والسلوك المناسبين. لقد شهدنا كيف استغلت كافة الأطراف نظام السعودة (توطين سوق العمل)، مثل الشركات التي زعمت أن لديها وظائف شاغرة، ومؤسسات التدريب ذات المشاركة الشكلية، والشباب الذين أبدوا حماساً للالتحاق بالدورات التدريبية لكن ليس بالوظيفة. وغالباً، لا تكون هناك حتى فرصة عمل موجودة. والعملية كلها أصبحت ممارسة شكلية لكافة الأطراف لاستيفاء بعض الشروط ليس إلا. آمل أن يتحسن الوضع، لكن ما زلنا نواجه تحدّيات ملحوظة.

س. هل بدأ الشباب السعودي يتطلع إلى القطاع الثالث (غير الربحي) للبحث عن الوظائف؟

لا شكّ في أننا نحاول ما في إمكاننا لحثّ الشباب على الاهتمام والانضمام إلى القطاع غير الربحي. في العام الماضي، عقدنا شراكة مع مؤسسة بيل وميليندا غيتس لتمويل برنامج زمالة خيري سعودي يعرف باسم "شغف". خلال الفترة التجريبية للبرنامج، سيلتحق 10 شباب سعوديين بمنظّمة غير حكومية في المملكة للعمل فيها لمدة سنتين، يتابعون خلالها دروساً صيفية في جامعة كولومبيا في نيويورك، ويعملون كمتدرّبين في مؤسسة غيتس. نأمل أن يصل هؤلاء الشباب إلى القناعة بأن القطاع غير الربحي هو مجال يمكن فيه بناء مسيرة مهنية فعلية، وأن يكتسبوا شغفاً بعمل الخير. كما نتمنى أن يكونوا سفراء للأعمال الخيرية في أيّ قطاعٍ يختارونه. 

س. هل يشهد عمل الخير تطوراً في المملكة؟

يكتسب عمل الخير رواجاً على مستوى العالم، ونحن نشهد هذا التوجّه في المملكة أيضاً. وقد بدأ القطاع ينضج في السعودية، فعلى امتداد السنوات الخمس الأخيرة، بادر عددٌ متزايد من الشركات العائلية ورجال الأعمال إلى إنشاء مؤسسات خيرية، فأصبحوا نماذج يحتذى بها. كما تساهم قوانين تنظيمية جديدة في تسهيل إنشاء المؤسسات الخيرية، وإن كنا مانزال بحاجة إلى فعل المزيد في هذا المجال. يبقى القول بأنه على الرغم من أن السعوديين كرماء جداً بطبعهم، لكنهم لا يقدمون إلا القليل من عطاياهم عن طريق المؤسسات الخيرية، حتى المحلية منها، إذ يفضّلون أن يمنحوها مباشرة إلى المستفيدين. لتغيير هذا الأمر، يجب على قطاع العمل الخيري أن يبني الثقة مع المانحين الأثرياء والمحسنين من الطبقة الوسطى.

بالإضافة إلى ذلك، فإن مفهوم الريادة في العطاء بدأ يتغيّر بدوره. فقد كانت الجمعيات الخيرية الثلاث الأولى التي سُجّلت في المملكة منظّمات غير ربحية أطلقتها نساء من العائلة المالكة أو غيرهم من كبار القوم في البلاد. لكننا بدأنا نشهد تطوراً في هذا الأمر؛ إذ أصبح الناس اليوم ينظرون إلى القضية التي يستهدفها العطاء أكثر من المؤسسة أو المحسن الذي يقف وراءها.

أخيراً، بدأ الجيل الأصغر سناً يتجه أكثر نحو العطاء الاستراتيجي. وهناك اليوم وعي يتزايد بأنّ تقديم العطاء مباشرةً لا يفيد بالضرورة الأشخاص الأكثر احتياجاً أو الأكثر جدارةً بالمساعدة. يبحث جيل الشباب اليوم عن نتائج ملموسة، وقد بدأنا نلمس هذا التوجه أكثر من السابق، خاصة في أعمال الخير التي تقودها الشركات العائلية.

س. برأيك، في أي مجال يمكن لمؤسسة الملك خالد الخيرية أن تحدث التأثير الأكبر؟

تضمّ المؤسسة وحدة خاصة تركّز على عملية صنع السياسات القائمة على الأدلة، من أجل الضغط والتأثير على صنّاع القرار. وتنصّ خطتنا على تعزيز هذا الجانب من عملنا.

نحن ندرك من تجربتنا عمق التأثير الذي يمكن أن نتركه. ففي العام 2013، ضغطنا من أجل سنّ قانون لمكافحة استغلال المرأة والطفل، وقد اعتمدته الحكومة وأقرّته فيما بعد. كنا قد مارسنا ضغوطات هائلة لنشارك في طاولة المفاوضات. وكانت تلك المرة الأولى التي تشارك فيها مؤسسة غير ربحية في عملية صياغة السياسات.

لا يتمثل أسلوبنا في التأثير في تحديد المجالات التي نعتقد أنها بحاجة إلى الإصلاح ثم القول: "يجب عليكم أن تصلحوا هذا الخلل"، بل يعتمد على تقديم الأفكار والتوجيهات لصناع السياسات. فمن السهل جداً أن نرفع صوتنا بالشكوى، لكن بذل الجهود الحثيثة لإيجاد الحلول المنشودة هو الجانب الممتع من العمل. آمل أن يكون هذا جزءاً من إرثنا الذي سنخلّفه لأطفالنا. — PA

ملاحظة المحرر: بمزيد من الحزن والأسى، تلقينا خبر وفاة الأميرة البندري في مارس 2019.