تحقيق أعظم قيمة لعمل الخير

عمل الخير والعطاء هو بأن يقودك عقلك وليس قلبك فقط، كما يقول البروفيسور في الأخلاقيات الحيوية بيتر سينجر. 


image title
لجأت الجمعيات الخيرية إلى استراتيجيات متعددة لمحاولة رفع معدلات الالتحاق بالمدارس في المجتمعات ذات الدخل المنخفض الصورة: غيتي إميجيز.

فاعلو الخير هم بشكل عام أفراد تغلب عليهم الطيبة ويمتلكون قلوباً كبيرة، لكنهم إن استمعوا فقط إلى قلوبهم، من غير المرجح أن يكونوا فاعلي خير صالحين؛ وفي غالب الأمر لن يُؤتي عملهم أفضل ثماره. فعندما يفشل الأفراد القادرون على فعل الكثير من الخير في تحقيق نصف ما هو بمقدورهم، فإنهم لا يقومون بالعطاء على نحو جيد. 

هناك حالات عديدة لا يكون فيها حبّ العطاء في أفضل مواقعه أو لا يقود إلى نتائج فعّالة. فعلى سبيل المثال، أعتقد أن العطاء الكبير في مجال الفنون يؤدي نسبياً إلى القليل من الخير. لكن حتى ضمن المفهوم العام لفعل الخير، وهو تحسين حياة الفقراء والمحتاجين، فغالباً ما يكون العطاء أقل فعالية مما هو ممكن 

يهتم العديد من فاعلي الخير الأميركيين بمساعدة الفقراء في المقام الأول ضمن مجتمعهم المحلي ومحيطهم المباشر. لكن نظام الرعاية الاجتماعية في الولايات المتحدة يعاني من العديد من الفجوات، أكثر من أي دولة غنية أخرى في العالم. مع ذلك، فإن عدد الناس الذين يعدّون فقراء حسب المعايير العالمية هم قلائل. 

تتوفر لدى الفقراء في الولايات المتحدة مياه الشرب النظيفة، والتعليم المجاني لأطفالهم، والرعاية الصحية المجانية، بالإضافة إلى الكوبونات الغذائية التي تعادل قيمتها وحدها أربعة دولارات في اليوم ـ وهو ما يمثل ذلك ضعف الدخل اليومي لنحو 700 مليون شخص حول العالم يرزحون تحت وطأة الفقر المدقع، وفق تصنيف البنك الدولي، أي ما يمثل قوة شرائية تعادل دولارين اثنين في اليوم. 

إن متوسط مدخول الفرد في الدول الفقيرة أقل بكثير من مثيله في الدول الغنية، وهذا يحدث الفرق الكبير في قدرتنا على مساعدتهم. فمثلاً، تُصنف الأسرة المكونة من أربعة أفراد في الولايات المتحدة بأنها تحت خط الفقر إذا كان ما تجنيه في السنة يتدنى عن 24,300 دولار. فلنفترض أنك قدمت 1,000 دولار لأسرة دخلها السنوي 20,000 دولار، فهذا لن يحدث فرقاً كبيراً في حياتها. 

لكن تخيل أسرة مكونة من أربعة أفراد تعيش تحت خط الفقر المدقع حسب تعريف البنك الدولي. نحن نعرف تماماً الأثر الذي يحدثه دخل إضافي بقيمة 1,000 دولار لمثل هذه الأسرة، والسبب هو أن هناك بالفعل منظمة خيرية تدعى ’جيف دايركتلي‘  GiveDirectly تبحث عن أفقر الأسر في دول شرق أفريقيا لتهبها 1,000 دولار 

تابع باحثون مستقلون ما تفعله تلك الأسر بهذا المبلغ الذي يُمنح لهم مرة واحدة فقط، فتبين لهم أن الغالبية تستخدم المال لاستبدال سقف كوخهم المصنوع من القش والذي ترشح منه مياه الأمطار بسقف من الصفيح. وبهذا يسلم أفراد الأسرة ومخزونهم الغذائي الثمين من الحبوب من البلل عند هطول الأمطار بقوة.  

تجنبهم هذه الخطوة أيضاً كلفة استبدال القش البالي بين فترة وأخرى. وقد يتبقى معهم الكفاية من النقود لشراء بضع دجاجات وتربيتها أو البدء بعمل حرّ بسيط.

بالطبع لا يتسم الناس كلهم بالحكمة، فبعض الأسر تصرف النقود على غذائها لتأكل طعاماً أفضل على مدى عام تقريباً؛ لكن حتى في هذه الحالة، فإن من شأن المبلغ أن يؤدي إلى شيء من الخير أكثر بكثير مما لو كان قد مُنح لأسرة تعّد فقيرة وفق معايير الدول الغنية فقط. 

لكنك إن قررت أن تدعم مشروعاً خيرياً في دولة نامية، فيبقى من المهم أن تتأكد من أن الفرق الذي تحاول أن تحدثه مجدٍ وفعال من ناحية التكلفة. افترض، مثلاً، أنك علمت بأن الأطفال، لا سيما الفتيات، في شرق أفريقيا غالباً ما يتخلّون عن الدراسة قبل إنهاء تعليمهم. وأنت تعلم أنهم إذا تابعوا دراستهم لسنوات أكثر، فإن فرصهم في الحياة تزداد أيضاً، لذا ستحاول إيجاد طريقة لتشجيعهم على الاستمرار في الدراسة لفترة أطول. 

عملت المنظمات الإنسانية والجمعيات الخيرية على اختبار استراتيجيتين: الأولى هي التحويلات المالية للفتيات شرط أن يداومن على الحضور في المدرسة؛ والثانية هي التحويلات المالية غير المشروطة. كما سعت بعض المنظمات إلى حوافز أخرى مثل تقديم المنح الدراسية للطالبات المجتهدات، وتوفير الزي المدرسي مجاناً، بالإضافة إلى توفير العلاج ضد الطفيليات المعوية لطالبات المرحلة الابتدائية. من ناحية أخرى، نظمت بعض الجمعيات حملات توعية لأهالي الطالبات لاطلاعهم على البيانات التي تشير إلى أنه كلما تخرجت الطالبات من صفوف أعلى، حصلن على أجور أعلى في سوق العمل.  

لكن في ظل غياب سبل الاختبار المناسبة سيكون من المستحيل التحقق من مدى نجاح أيٍّ من هذه الاستراتيجيات وأيها الأفضل. لذا أجرى معمل عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر (J-PAL) الذي يتخذ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة مقراً له، دراسة على أثر تطبيق هذه الاستراتيجيات، وخلص إلى أن كل 100 دولار تنقق على توعية الأهل حول تحسن فرص العمل لأولادهم في المستقبل إذا تابعوا تعليمهم لفترة أطول، تؤدي إلى أن يتابع أولادهم تحصيلهم العلمي لسنوات إضافية يبلغ متوسطها 20.7 عاماً. 

ويبدو أن مكافحة الطفيليات المعوية لدى الأطفال هي من النتائج الفعالة من حيث التكلفة، وفق الدراسة، حيث تساعد على بقاء الأطفال على مقاعد الدراسة لمدة 13.9 عاماً إضافية لكل 100 دولار تنفق على العلاج، على الرغم من أنه تم التشكيك بنتائج إحدى الدراسات الرئيسية في هذا المجال.

أما الاستراتيجيات الأخرى، فقد أشارت الدراسة إلى تدني مستوى فعاليتها مقارنة بالأموال التي تنفق عليها، إذ لم يؤد أي منها إلى إطالة فترة الدراسة حتى بمقدار سنة واحدة مقابل كل 100 دولار ينفق عليها.

وتبين أيضاً أن منح أسرة الطالبة 100 دولار لتستمر بالدراسة هي الوسيلة الأقل جدوى، سواء كانت مشروطة بالدوام بالمدرسة أم غير مشروطة، فمتوسط الفترة الإضافية لمتابعة الطالبات الدراسة لم تتعد عُشر السنة مقابل كل 100 دولار. ويمكن الاستنتاج من نتائج الدراسة أن فوائد الاستراتيجية الأكثر فعالية هي أكبر من تلك الناتجة عن الاستراتيجيتين الأقل فعالية بنسبة تتجاوز الـ 200 مرة. بعبارة أخرى، فإن 99.50 دولار من أصل 100 دولار تنفق هي خسارة وهدر للمال.  

فمثلاً إذا قمت بشراء غسالة لبيتك، ثم علمت أن الثمن الذي دفعته هو 200 ضعف المبلغ الذي دفعه جارك لقاء شرائه غسالة بذات المواصفات، فلا شك أنك ستشعر حقاً بالغبن أو الغضب. بالطبع من المستبعد حصول ذلك بهذه الصورة على أرض الواقع، وإلّا اضطرت الشركة المصنعة للغسالة الباهظة الثمن عاجلاً إلى إغلاق أبوابها. لكن الأمر يختلف بالنسبة للمؤسسات الخيرية التي قد تنفق 200 ضعف المبلغ المطلوب لإبقاء الأطفال في المدارس وهي مستمرة بعملها هذا لأن المانحين لا يطالبون ببرهان حقيقي على فعالية البرامج.  

لكن هناك اليوم حركة تعرف باسم الإيثار الفعّال تحاول تصحيح هذا النهج من خلال تشجيع الناس على العطاء مدفوعين بما تمليه عليهم عقولهم وليس فقط قلوبهم. فغالبية الناس الذين يتبرعون للمؤسسات الخيرية لا يحاولون إجراء أي بحث للتحقق من المؤسسة وفعاليتها. فما يدفعهم للتبرع يكون عادة ردة فعل عاطفية قد تكون لصورة طفل بحاجة إلى المساعدة أو ما شابه ذلك. 

إنه أمر حسن جداً أن يشعر الناس بهذا الدافع العاطفي لإغاثة من هم بحاجة إلى المساعدة، لكن في عالم معقد مثل عالمنا حيث تتفاوت الثروات بشكل كبير، لا يفي الدافع العاطفي بالغرض. يدرك العديد من رواد العطاء هذا الأمر جيداً، لكن هناك العديد أيضاً الذين لا يدركونه. 

منذ فترة قصيرة نسبياً لا تتعدى العشر سنوات، كان من بالغ الصعوبة أن يحصل المرء على معلومات جيدة حول الأثر الذي تحدثه المؤسسات الخيرية لقاء كل دولار من المبالغ التي تمنح لعملها. لكن توجد مواقع على الإنترنت اليوم توفر للمستخدم المعلومات المطلوبة حول مختلف المؤسسات الخيرية والقضايا الإنسانية التي تم التدقيق فيها، وأيٍّ منها يتميز بالفعالية العالية في الأداء؛ مثل موقع The Life You Can Save وموقع GiveWell وموقع Open Philanthropy 

ولا يعد إجراء هذا التقييم حول المؤسسات بالعمل السهل أو الزهيد التكلفة، لكنه يبقى أقل ثمناً بكثير من التبرع بأموال عاماً تلو الآخر دونما أن يعلم المتبرع ما إذا كان هذه المبالغ تؤدي الأثر المطلوب منها أم لا– PA

نبذة عن الكاتب

بيتر سينجر الاسترالي المولد هو بروفيسور في دراسة الأخلاقيات الحيوية في جامعة برينستون، وله عدة مؤلفات، منها: The Life You Can Save و The Most Good You Can Do و Why Vegan.

حاز سينجر على جائزة بيرغروين للفلسفة والثقافة لعام 2021 وتعهد بمنح نصف قيمة الجائزة البالغة مليون دولار إلى ’ذا لايف يو كان سيف‘ The Life You Can Save، وهي منظمة غير ربحية شارك في تأسيسها مع تشارلي بريسلر لتسليط الضوء على العطاء الفعّال وتوفير المعلومات المفيدة للمانحين. 


اقرأ المزيد